د.عبد الرحمن الحبيب
كيف وصلت حياتنا اليومية بأن تصبح: سريعة، متدفقة، متقلبة، مُجازِفة، شكاكة.. غير محددة، بلا مركز، صعب التحكم بها ومن ثم صعبة التوقع؟ المفكر زيجمونت باومان أطلق عليها «الحداثة السائلة»: طريقة في الحياة يتم خلالها إعادة تشكيل مستمرة للعالم بطرق مفاجئة وعالية المخاطرة..
هناك من يسميها «ما بعد الحداثة» لكنه مصطلح خاو يشير إلى غيره، لذا سمها البعض الحداثة المتأخرة أو الثانية، وسماها أحد المفكرين «الحداثة الانعكاسية»، بينما اكتفى آخرون بمصطلح العولمة.. لكن يبدو خلال السنوات الأخيرة أن مصطلح «الحداثة السائلة» يتنامى كأفضل الخيارات المعبرة عن عالم اليوم. فكيف طرحها باومان؟ من أبسط التوضيحات لهذه الفكرة الكبيرة هو في كتاب «علم الاجتماع» الذي صدر هذه السنة لدار النشر دورلينج كيندرسلي.
في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت المجتمعات تتكتل حول المدن، ودخلت أوروبا الغربية مرحلة ما يعرف بالحداثة، التي تتصف بالتصنيع والرأسمالية. وفقاً لباومان، انتقلت المجتمعات من هذه المرحلة الأولى للحداثة - التي يسميها الحداثة الصلبة - إلى مرحلة الحداثة السائلة. هذه المرحلة الجديدة تؤثر في المجتمع على مستويين: العالمي والفردي.
الحداثة السائلة هي المرحلة الحالية في تطور المجتمع الغربي، لكنها الآن امتدت للعالم كله. باومان مقتنع، مثل كارل ماركس، أن تطور المجتمع البشري يمر بمراحل حتمية تتطور بها كل مرحلة نتيجة ما قبلها. لذا، من الضروري فهم الحداثة الصلبة قبل محاولة فهم الحداثة السائلة.
يرى باومان الحداثة الصلبة باعتبارها عقلانية، منظمة، قابلة للتوقع، ومستقرة نسبياً. تتصف سماتها بتنظيم النشاطات البشرية والمؤسسات البيروقراطية والمدنية، حيث النشاطات العقلية يمكن تطبيقها لحل المشاكل وإيجاد حلول تكنولوجية. مثلاً، البيروقراطية، رغم جوانبها السلبية، تواصلت بنجاح لأنها الطريقة الأكفأ في عمل المؤسسات الكبرى وتنظيم الأعمال والتفاعلات بين عدد كبير من الناس.
مفتاح آخر من صفات الحداثة الصلبة هو التوازن في البناء الاجتماعي، فحياة الناس مستقرة نسبياً من ناحية القواعد الاجتماعية، والتقاليد، والمؤسسات. هذا لا يعني أن باومان يقترح أن التغيرات لا تحصل في الحداثة الصلبة، بل تحصل لكن بطرق منظمة وقابلة للتوقع نسبياً. الاقتصاد يُظهر مثالاً جيدا: في الحداثة الصلبة، أغلب الناس - من الطبقة العاملة إلى الطبقة الوسطى- يتمتعون نسبياً باستقرار وظيفي. نتيجة لذلك، يميلون للبقاء في نفس المنطقة الجغرافية، يتربون ويترعرعون في نفس الحي، يلتحقون بنفس المدارس التي التحق بها آباؤهم وبقية أعضاء العائلة.
يَعتبر باومان الحداثة الصلبة نتيجة مباشرة لعصر التنوير حيث العقلانية أدت إلى تحرير الإنسان، وحيث مفكرو التنوير استخدموا العقل والعلم لنقل المجتمع. وكلما تقدمت المعرفة العلمية فإن فهم المجتمع وتحكمه بالعالم الطبيعي والاجتماعي يتقدم. هذا الإيمان بالأسباب العلمية في الحداثة الصلبة تجسد في المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي أبرزت القضايا والمشكلات القومية. قيم عصر التنوير تجسدت مؤسسياً في صورة الدولة الحديثة باعتبارها المرجعية الأساسية لقيم التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
أما على مستوى الفردي، فقد أبرزت الحداثة الصلبة صعود التمثيل للهوية الفردية والذاتية. أفراد الحداثة الصلبة لديهم شعور متحد وعقلاني ومستقر في الهوية الشخصية، لأنها تشكلت عبر عدد من المعايير المستقرة، مثل: الوظيفة، الدين، الوطن، الجنس، العرق، أسلوب الحياة...
كيف حصل الانتقال من الحداثة الصلبة إلى السائلة؟ التلاقي العميق بين التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أنتج نظاماً عولمياً يتحفز عبر هوس اضطراري وإدماني على إعادة اكتشاف العالم، حسب وصف باومان الذي شخَّص خمسة تطورات مترابطة أدت إلى هذا الانتقال. الأول، الدولة الوطنية لم تعد الهيكل الحامل الأساسي للمجتمع، فالحكومات الحالية صار لديها نفوذ أقل بكثير لتقرير الأحداث داخل وخارج البلد. الثاني، العولمة الرأسمالية فرخت الشركات المتعددة الجنسية مسببة اللامركزية في سلطات البلدان. الثالث، التقنية الإلكترونية حيث الإنترنت هيأ وسائل الاتصال لتدفق المعلومات. الرابع، المجتمعات أصبحت منشغلة بالمخاطر الأمنية والأضرار المحتملة. الخامس، تنامي الهجرة عبر العالم بشكل غير مسبوق.
والآن، ما هي الحداثة السائلة؟ يقر باومان أن تعريف الحداثة السائلة ينطوي على تناقض، لأن المصطلح يشير إلى ظروف عالمية في حالة سيولة متدفقة ومتغيرة. إنما هو يزعم أن توصيف أهم خصائص هذه الحداثة ممكن. على المستوى الفكري، الحداثة السائلة قوضت قيم عصر التنوير بأن المعرفة العملية ستحل المشاكل الطبيعية والاجتماعية. في الحداثة الصلبة كان العلميون والخبراء والأكاديميون يشكلون المرجعية الفكرية العليا، بينما في الحداثة السائلة صاروا في موقع ملتبس ومشكوك فيه كحراس للحقيقة، فقد أصبح ينظر إليهم كمصدر للمشاكل البيئية والاجتماعية السياسية وفي نفس الوقت كمصدر لحلول هذه المشاكل. هذا يقود حتماً إلى زيادة الشكوك والتشويش واللامبالاة لدى بعض الناس.
على المستوى الاقتصادي صار شائعاً إعادة الهيكلة وتقليص عدد العاملين في الشركات خلال المنافسة المالية المحمومة بين الشركات في سوق العولمة. لذا، فإن الاستقرار الوظيفي في الحداثة الصلبة استبدل بالتوظيف المؤقت المؤدي إلى كثرة التنقلات الوظيفية. عدم الاستقرار الوظيفي شكل علاقة وثيقة مع تحول دور وطبيعة التعليم. صار مطلوباً من الأفراد مواصلة تعليمهم - غالباً على حسابهم - في تخصصاتهم من أجل اللحاق بالتطورات المتجددة في مهنهم.
هذا النمط الوظيفي تضافر معه تراجع أدوار دولة الرفاه. ما كانت تقوم به الدولة من رعاية للعاطلين عن العمل أو المرضى صار يتآكل نتيجة الضغوط المالية، خاصة في قضايا الإسكان والصحة وإعانات التعليم العالي. في الصحة مثلاً يطرح باومان أن الخدمات الصحية التي توفرها الدولة في بريطانيا أصبحت تتآكل رغم الدعم الكبير من النظام.
كانت الحداثة الصلبة مبنية على الإنتاج الصناعي للسلع الاستهلاكية، تحولت إلى تنامي مضطرد لاستهلاك السلع والخدمات. هنا ينتقل الاقتصاد من إنتاجي إلى استهلاكي نتيجة تحلل البنى الاجتماعية (الوظيفة، الدولة، العائلة) مما أحدث تغيراً جذرياً في تحديد الهويات الشخصية. لم تعد الهوية الشخصية قائمة على التعريف الاجتماعي السابق بل أصبح متوقعاً من الأفراد أنفسهم القيام بمهمة خلق الهوية، مما شكل معضلة للأفراد بطرق لم يسبق لها مثيل، ومن ثم دائرة لا حدود لها في سؤال الذات والتفتيش عنها بطريقة تؤدي إلى مزيد من تشويش الفرد وإرباكه.. كيف حدث هذا؟ ذلك موضوع المقال القادم..