د. حمزة السالم
حكمة إستراتيجية في بناء القادة والإداريين، تعلمتها عندما كنت «مدفعجياً»، أدرس علم المدفعية في أمريكا، ثم نسيتها إلى حين، فما ذكرتها حتى كنت قد دفعت ثمن نسيانها.
فقد كنا ندرس حسابات توجيه النيران، في الجانب الفني من برنامج قادة المدفعية. وكان دمج معلومات الطقس ضمن حسابات أهداف الرماية، أصعب جزء في ذلك الكورس. وكان الاختبار لست ساعات ومقتصراً على حل رسالة جوية واحدة، مع الاستعانة بجميع الكتب والمصادر. ومع ذلك، فالنتيجة رسوب نصف الطلبة، الذين كان عددهم يزيد على المائة، كلهم من الضباط الأمريكيين (وللعلم فلا يُظن أني أحد الراسبين، فإني قد حصلت على الدرجة كاملة ومنحت وسام سيد مقاتلي الحرب عند التّخرج متفوقاً على الأمريكيين جميعهم).
وفي التطبيق الميداني، أوصانا الضباط المدربون أن لا ننبهر بما رأيناه من إنجاز الرقيب للرسالة الجوية في دقيقتين، دون أي خطأ. فإنما هي عمل الرقيب الوحيد، الذي قضى فيه سنوات عمره.
وأنا لا أستبعد أن عرض الرقيب أمامنا كان جزءاً من تدريب القيادة وتطوير الذات.
ولذا فقد جعلت رواية هذه القصة جزءاً من تدريسي لأي مادة في الجامعة، أرويها لطلبتي في بداية كل فصل دراسي وأذكّرهم بها تكراراً خلال الفصل: لا ينبهر أحدكم بابن سالم. فابن سالم دكتور قضى سنوات يدرس نفس المادة، وما تعلم إلا من طلبته. ولو رأيتم ابن سالم في محاضراته الأولى يتخبط ذات اليمين وذات الشمال، لما غرتكم منه حذاقة يتحذَّقها، أو تحذُّقاً اكتسبه مع تكراره لتدريس المادة. فشمِّروا الساعد في البحث عن أخطائه. فما أعظم «البونص» حينها، فمن يلحظ الخطأ فيكشفه، فله الأجر مرتين. وإن يكن قد فاتكم زمان كثر خطؤه وخلطه، فلن تعدموا سبقه، وهذه باب لا يُبليها الزمان. وإنما سبقت الأمم بسبق الآخر منهم للأول. فإن كان الأول عالياً رفعك بعلوه، ولتعلوه بدرجة.
والتنظير بلا تمثيل، فلسفة عقيمة، يتبناها الجاهل الدّعي والأحمق المغرور. وكذلك، فالتطبيق بلا تنظير سعي للهيجاء بقيادة الأهوج المغرور السقيم. لذا فلا يُجيبن أحدكم إلا من خلال مثال أو قصة. فتنزيل الفهم على مثال واقعي أو افتراضي، يُظهر ما اختلط من الفهم، ويوسع مداركه.كما أنه يظهر جودة التنظير وشموله أو يبين ضعفه أو سفسطته. ومن أبى إلا ما اعتاد عليه من الحفظ والترديد، فلن يجد ما اعتاد أمامه في الاختبار. وسيجد نفسه باحثاً عن الوصاية المهنية بعد تخرُّجه. ثم إذا ترقى، سيرى نفسه مُتحمّداً بمحامد غيره، دعياً لها، مرتدياً ثوبي زور وجهل، غيوراً من نوابغ قومه حسوداً لهم.
ودونكم ابن سالم، فتعلموا به الرماية كما تعلم هو بمن سبقكم من الطلبة. فلا يأل أحدكم جهداً في رميه مصوباً مُهدفاً، موجعاً له ما استطاع. وإياكم ورمي العابثين والطائشين، فما في الوقت من فسحة لتنعيم جلد رهيف. فإنك بعد اليوم إما أسير لبليد، وإما قتيل حسير.
ولا يغرنك اجتماع الناس على أمر قد استنكرته عقلاً ومنطقاً، أن تخوض غمار التأكد من صوابه أو كشف الساق ببحثه ولكن بالدراية والريادة. فليس من دون دين الله، فيما أجمع الناس عليه صحيح قط، إنما هو منتهى عقول حكمائهم. فلا يضيء لهم الشعلة من بعيد إلا من سبقهم بعقله، فخرج باحثاً في الطريق المظلمة، فإن سلم من قطاع الطريق وأفلح في تجنب السِّباع والهوام ولم تخدعه فخاخ الصيادين حتى وصل فكشف لقومه الطريق، سارعوا إليه قُدماً مستنكرين ما كانوا عليه مجمعين.
ولا تجزعن يا بني من غدر الصديق وحسد القرين وطمع اللئيم، فإنما هي حتمية الصراع الإنساني الذي يصقل العقول ويثبت القلوب. ولولاها لما اكتسبتَ ما اكتسبت من العلوم والمعارف والحِكم. فما كانت حتمية الصراع الإنساني عائقاً لتقدم الأمم قط، بشرط سلامتها من الوصاية الفكرية وسلمت من إكثارها لتنعيم ذاتها، ومن جلد عقلها، حتى صارت الهذرفة عندها رأياً، وصار الرأي عندهم سفسطة.
فإن كان هذا حال قومك يا بني فاحفظ شبابك بإماتة همتك، وتأول تخاذلك بوصية اتباع الحكمة. وعش وحيداً وكن بليداً، لتُخلد طويلاً وتمت هنيئاً سعيداً.