د. حمزة السالم
وقعت مصادفة على تقرير صندوق التنمية العقاري لعام 1433 - 1434 ؛ فوجدت في الأرقام ما شد تساؤلاتي. فلما بحثت قليلاً ظهرت لي أمور، لا يجوز لي السكوت عنها. ونظراً لأن المعلومات كانت شحيحة فقد لجأت لوزارة المالية التي هي المسؤول الأول عن الصندوق سابقاً، وهي التي من المفترض أن تكون مصدر المعلومات وقدوة الشفافية، خاصة وهي تفكر في فرض ضريبة على محدودي الدخل لتعوض نقص موارد، يستخدمها الأثرياء أكثر.
ومن دخل موقع الوزارة الإلكتروني لتحصيل معلومات بكى حالها، وتمنى لو أنه يستطيع أن يتصدق عليها ببعض المعلومات؛ فلم تتكتم وزارة المالية على أبسط المعلومات، ولا تستحي من وضع رابط على صفحتها بعنوان بيانات إحصائية!! فأي نوع من الفساد تخفيه وزارة المالية؟ فساد إداري أم مالي أم علمي ومهني أم مجرد إهمال ولا مبالاة؟ فالواثق بعلمه ومهنيته وأمانته يُظهر ما عنده.
وعلى العموم، فضخامة حجم الأرقام تغني عن البحث في التفاصيل؛ فهو كضخامة انكشاف بعض البنوك في اكتتاب الأهلي بعشرة أضعاف طاقتها التمويلية. وأما في قضيتنا اليوم فالمفقود أكثر من ثلث المصروف عليه من خزينة الدولة.
فالمليار الذي يُصرف للصندوق العقاري من قبل يتسع لإقراض نحو 3.333 (300.000/ قرض) ليسددوا 40 مليوناً سنوياً، لـ25 عاماً. ولكن هذا لا يحدث واقعاً؛ لذا فلنفترض الأسوأ. فإذا احتسبنا نسبة التعثر التي نص عليها التقرير لكل القروض بـ 15 %، وافترضنا هؤلاء كلهم يعيدونها في وقتها، فيحق لهم الحسم فيسقط عنهم 20 %؛ فيصبح سدادهم السنوي 27 مليوناً لا 40 مليوناً. فإذا أقرضنا هذه المبالغ في وقتها لـ91 مواطناً فسداد السنة الثانية سيرتفع، وهكذا حتى يغطي هذا التدوير قرابة عشرة آلاف قرض في 40 عاماً، (300.000/ قرض). فكلفة القرض على الدولة يبلغ نحو مائة ألف فقط بعد 40 عاماً من التدوير رغم التعثر والتخفيض، وتستمر في النقصان إلى أن تصل للألف. (وكلفة القرض على الحكومة اليوم يسدد بلا تخفيض ولا تعثر تبلغ 40 ألفاً فقط للقرض أبو 500 ألف بعد 40 عاماً). فالمليار بالوضع السابق إذاً أصبح ثلاثة مليارات، أو 6347 قرضاً في 25 عاماً، وصار المليار مليارين تقريباً، رغم عدم سداد 15 % وحصول الجميع على تخفيض 20 %. (وأنا أعرف أنهم يعطون القرض على دفعات، وهذا يذوب في بعضه مع السنوات فلا يعتبر).
وليست هناك أرقام تبين متى دخلت أموال الدعم قبل عام 1412، ولكن مجموعها بلغ أكثر من 73 ملياراً. فالفحص الأول للتأكد من وجود خلل ما؛ لذا فقد ابتدأت بـ 73 ملياراً في عام 1412 إلى 1437 مع إضافة الدعومات التي أتت في أوقاتها. فالنتيجة أنه كان يستلزم أن يكون هناك 751.542 قرضاً، تبلغ قيمتها أكثر من 225 ملياراً. بينما قيمة مجموع قروض الصندوق من 1394 إلى 1437 نحو 218 ملياراً، بمجموع قروض 720 ألف قرض بجميع أنواعه الاستثماري والإسكاني والخاص. فمتوسط قيمة القرض هي نحو 304.
فالفرق الأكيد هنا نحو سبعة مليارات مفقودة، رغم إسقاطي تسعة عشر عاماً تدور فيها أكثر من 73 ملياراً. إذاً فهناك خلل؛ فلنفحص المدة كلها تقريبياً؛ لنأخذ فكرة عامة تقريبية.
فإذا أعدنا الحساب من 1394 ببداية الـ250 مليوناً الأولى عام 1394، وفرقنا الـ 73 ملياراً على ثمانية عشر عاماً بعدها بالتساوي، وواصلنا الحساب بإدخال دفعات الدعم في وقتها المعلوم بعد 1412، فالدعم البالغ 127 ملياراً ونصف المليار تقريباً مفرقة خلال 45 عاماً كان من المفترض أن يبلغ اليوم قيمته كقروض 265 ملياراً لا 218 ملياراً فقط. ويكون قد منح أكثر من 883 ألف قرض، تسديداتها تأتي بأكثر من سبعة مليارات سنوياً (على حساب 81600 ريال سنوياً سداد لكل قرض) وليس فقط 720 ألفاً فقط. فأين ذهبت نحو خمسين ملياراً؟ وأين ضاعت نحو 150 ألف قرض؟
المواطن يا وزارة المالية يحتاج لإجابة مفصلة قبل أن تُفرض عليه ضرائب سلع. أهي جميعها إهمال وسوء إدارة شديد للتدفقات النقدية؟ أم هي أوامر سحب للتسديدات المتدفقة، ولم يُبين المسؤول لمن أمر بذلك ومدى الخسارة الناتجة من ذلك؟ أم هي تأخير مبالغ في ودائع البنوك حين كانت الفائدة 9 % وأكثر وأقل؟ ألا نظن أنها كانت مغرية في أواخر السبعينيات عندما تعدت الفائدة 15 %؟ والبنوك لا تحتاج لتشغيلها؛ فبمجرد إيداعها في البنوك تودعها هي بنهاية الدوام عند ساما؛ لتحصل على 15 % بالريبو العكسي وحتى 5 % إلى عهد قريب.
الخمسون ملياراً المهدرة تبلغ قيمتها أكثر من ثلث الدعم نفسه، وكم تبلغ قيمتها الشرائية اليوم؟ وما هي الفرصة البديلة التي أضاعتها؟ فقد تصل لمئات المليارات بحساب مباشر، وأضعاف هذا بحساب غير مباشر.
ما هذا إلا نموذج بسيط ظهر لنا مصادفة وبسهولة؛ ليرينا مدى الخسائر والهدر الاقتصادي عندنا الناتج من عدم تولية الأمر أهله مهنياً أو علمياً أو مقدرة أو أمانة.
أنا ضد نبش الماضي والتحقيق فيه؛ فهو مضيعة للوقت وأقرب للمظلمة وأمنع للاستفادة من الدرس.
أنا أدعو لدراسة تحليلية عميقة لكلفة هدر اقتصادنا في الأربعين عاماً السابقة، دون بحث للأسماء أو تحميل مسؤولية على أحد؛ لندرك بعمق كلفة تساهلنا في تدريسنا لطلبتنا وإهمالنا في أعمالنا ومدى جرم المفسد مالياً أو إدارياً أو تعليمياً أو تنافسياً، وأنه هدَّام.
(ملاحظة: في مقالي «كيف سلب القرض المعجل الإعانة من المواطن فجعلها أرباحاً للصندوق» انتبهت أثناء كتابتي هذا المقال أني وقعت في خطأ، تسبب به عناد ميكروسوفت مع ماك «الأكسيل في ماك»؛ فلم يقسم الفائدة السنوية على 12 شهراً. فقلت في المقال إن عائد الصندوق من القرض يدور حول 9 % بينما هو يدور حول 1 %، وإن كان المعنى ما زال موجوداً، وهو التربح بدلاً من الإعانة. ولكن مثلي لا يُعذر بسبب حالي في المرض والعجلة فما هو إلا الإهمال. فقد كان يجدر بي الانتباه إلى قيمة العائد الكبيرة؛ لذا فأعتذر للقارئ الكريم عن ذلك؛ فقد يكون نقلها لآخر -ثقة منه بما أطرحه-؛ فتتضرر مكانته عنده بذلك).