د. حمزة السالم
الضرائب ليست مكوساً إلا إن كانت الزكاة والخراج مكوساً. فالمكوس هي أموال يأخذها الظلمة من الحكام لصرفها على أمورهم الخاصة، وتحريم المكوس هو حكم شرعي جاء به الوحي. وقد تصبح الزكاة والضرائب والخراج مكوساً إذا ما أُسيء استخدام أي منها، كصرفها على نفقات الأمراء والولاة. أو إذا بغى الجُباة في جبايتها. ولعل هذا كان من أسباب إلغاء أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لجباية زكاة الأموال الباطنة. فالزكاة والخراج والضرائب والمكوس أربعة مصطلحات مختلفة الدلائل والمعاني واللوازم والمستلزمات، يُخلط بينهم بالشبه كثيراً، والشبه مظنة الخطأ غالباً. فهي أربعة مُصطلحات تجمتع في معناها الواسع الذي يحمل معنى قيام من يمثل سلطة الدولة لجباية الأموال من عامة أفراد المجتمع، مقابل انتماء الأفراد للمجتمع المحكوم من قِبل هذه الدولة. وهذه المصطلحات على اجتماعها في عموم المعنى، إلا أنها تتفرق في جوهر حقائقها، وفي أغراضها ومقاصدها. ولكن هذا الافتراق، لا يمنع أن يلتقي بعضها مع بعض في جزئيات الأغراض أو المقاصد.
فجوهر معنى الزكاة العام هو حق الفقير في مال الغني، لذا فهي نسبة ثابتة لا تتزايد مع تزايد النمو والغنى. وبهذا فهي تختلف جوهرياً عن جوهر فكر الضريبة. ففكر الضريبة قائم على أساس مفهوم تسديد كلفة الخدمات العامة من المستفيد منها، بمبدأ النسبة والتناسب. لذا فالضرائب تُصرف في منفعة الغني والفقير بخلاف الزكاة. ولذا وبمبدأ النسبة والتناسب، فالضرائب تزداد مع زيادة الدخل. لأن كل من ازداد دخله زاد استخدام موارد دخله للخدمات العامة، بطريق مباشرة أو غير مباشرة.
والخراج نوع من أنواع الضرائب، فالخراج أول ضريبة في الإسلام. ولا يجوز القول إن الخراج حكمٌ شرعيلإ إلا إن قصد به أنه من المباحات، أي حكم البراءة الأصلية التي هي حكم الله، وإلا كان الفاروق نبياً. فالخراج ليس حكماً جاء به الوحي بل هو قرار إداري عبقري من الفاروق.
ونظام التقاعد عندنا ليس ضريبة بل صندوق ادخاري ما لم يمُت المستفيد، فإن مات عاد صندوقاً ادخارياً تعاونياً. اللهم أنه مستمد من فكر الزكاة في حسابه لا أهدافه. بينما نظام التقاعد في أمريكا يعتبر ضريبة. لأنه يحسب بطريقة الضرائب المتصاعد على الأثرياء. فيقتطع نسبة أكبر من الدخل مع زيادة الدخل، ولا يزيد هذا من راتب التقاعد إلا شيئاً يسيراً. فأعظم راتب تقاعد عندهم لا يبلغ ثلاثة آلاف دولارٍ ولو كان راتبه مليون دولارٍ شهرياً كانوا يقتطعون ثلثها لصالح التقاعد. فهو ليس صندوقاً ادخارياً مثل نظامنا، ولا يحسب من دخل الدولة، بل هو نظام ضريبة مجردة من أهم مداخل الحكومة الأمريكية.
وضريبة القيمة المضافة هي ضريبة السلع، ستقع كلفتها على المستهلك. والفرق في التحصيل فقط. فضريبة القيمة المضافة تُجمع في عدة مراحل بدلاً من مرحلة واحدة. وهذا يسمح للحكومات برفع الضريبة أكثر، دون خلق امتعاض مساوٍ للزيادة. وهي في بعض البلدان أكثر ضبطاً لمنع التهرب منها إذا توفرت الكفاءة المحاسبية والرقابية العالية، التي تمنع التدوير. فهي لا تصلح في بلادنا، والتفصيل يطول.
والمهم، إن غرض الضرائب هو الإنفاق الحكومي على مصالح الناس. والتاجر والثري يستخدم المنافع الحكومية أكثر من غيره، ولذا تفرض عليه ضريبة أعلى، ولا يكون هذا إلا بضريبة الدخل. ولكن في ضريبة السلع أو القيمة المضافة سيدفع الفقير ومتوسط الحال والغني والتاجر نفس نسبة الضريبة. واستهلاك الأصناف كلهم هو تقريباً استهلاك متماثل. فلن يأكل التاجر مائة دجاجة أو يركب عشر سيارات أو يلبس عشرة ثياب. فالجميع سيتساوى تقريباً في المنفعة وفي نسبة الضريبة. ولكن الفقير ومتوسط الحال يصرف دخله كله على استهلاك السلع بينما لا ينفق التاجر والثري شيئاً من دخله على استهلاك السلع. فإن كانت نسبة الضريبة 5% كانت الضريبة في حق متوسط الحال 5% بينما تكاد لا تمثل شيئاً من دخل الثري والتاجر. والتاجر والثري ينتفع من المنافع أكثر من الفقير، فالجيش والقضاء والأمن وغيرها من الأجهزة الحكومية تحمي ملياراته وتخدم مصالحه الكثيرة، كما يحمي ريالات الفقير ومصلحته الوحيدة، ويؤخذ من الفقير 5% من دخله بينما لا يؤخذ شيء تقريباً ممن دخله بالمليارات. فهنا تُنزل الضرائب تنزيل المكوس بغياب ضريبة الدخل التي يقع غالبها على التاجر والثري. لأن ضريبة القيمة المضافة تؤخذ من الفقير فيصرف غالبها على مصالح الثري والتاجر.
والضرائب بجميع أنواعها -إلا التنظيمية منها كضريبة الأراضي والدخان والطرق المزدحمة ونحوه-، كذلك قد تتحول فتصبح مُكوساً في غياب الشفافية والمحاسبة الكاملة. والشفافية والمحاسبة لا تكون إلا في الديمقراطية. فالديمقراطية سبب لتنبي ثقافة تقبل الناس للضرائب، فهي شرط لنجاح نظام الضرائب.
فالضرائب لا خير فيها ما لم تكن جزءاً ضرورياً لتشكيل النظام السياسي الأمثل، أو لم تكن لأغراض تنظيمية محددة على سلع معينة، كالأراضي.
والنظام السياسي الأمثل عند شعب أو أمة ما، لا يعني أنه الأمثل للشعوب كلها فهناك فروق اقتصادية وثقافية بين الشعوب. فالبلاد الغنية بالموارد، التي تملكها الحكومات، والدويلات التي تُعتبر ملجأ الأثرياء والتجار لا تفرض الضرائب ما لم تكن تنظيمية. ولهذا ما غابت ضريبة الدخل دون ضريبة السلع إلا عن دول الخليج وجزر الأغنياء والأثرياء كالمالديف وموناكو وبورني والبهاماز وأمثالها من دويلات ملاجئ الأثرياء والتجار.