علي الصراف
قل لي ما هو فحوى النقاش العام، أقل لك إلى أين يذهب أي مجتمع. هذه الحقيقة لم تكن غائبة عن خبراء صنع السياسات في الولايات المتحدة وغيرها عندما قرروا دعم حركات «الإسلام السياسي المعتدل».
لقد أراد أولئك الخبراء أن يصنعوا مسارات لكي نغرق نحن في نتائجها وندفع ثمن العواقب الناجمة عنها.
نحن نعرف، أنه لا يوجد «إسلام سياسي معتدل». هذه مجرد خرافة. كل حركات «الإسلام السياسي» المعاصرة، من «حزب الله» في لبنان، إلى «حزب الدعوة» في العراق، إلى جماعة «الاخوان المسلمين» في مصر، وكل ما بينهما من تنظيمات، إنما تستند إلى أساس تكفيري واحد.
وتبدأ من أحكام وقناعات مطلقة وغير قابلة للنقاش، وتسعى إلى فرض هذه الأحكام والقناعات بالقوة أو بالابتزاز. وهي تنظر إلى الآخر نظرة تصغير، وتقدم نفسها على أنها الطهارة كلها لكي تتعالى على الجميع. وهي وحدها التي تملك الحق كله، وهي ممثله الأعلى والوحيد. وتتصرف كعصابة ومليشيات (بسلاح أو من دون سلاح). وتناهض وجود الدولة أو تتحداه، ولا تعترف بحدود الأوطان.
وهذا ما لا علاقة له بأي وجه من وجوه السياسة، كما أنه لا ينطوي على أي اعتدال.
ولكن وجود هذه الجماعات يأتي بنتيجة كارثية واحدة، هي أنها تفرض مسارا للنقاش العام يدفع المجتمع بعيدا عن النظر في مصالحه الأساسية، ويعرقل التوجهات لمعالجة المشكلات التنموية الكبرى، التي تمس حياة كل الناس وتؤثر على مستقبلهم ومستقبل أوطانهم.
ما حصل في مصر على امتداد العام الذي حكم فيه «الاخوان المسلمون» يكشف بوضوح عن هذه الحقيقة، وهي أن المجتمع المصري وجد نفسه غارقا في الصغائر والثانويات والفرديات، بينما كانت الكبائر والعموميات والجماعيات تتجه نحو الخراب، حتى أصبح إعلان الإفلاس أمرا محتملا، لعجز البلاد عن سداد كلفة ديونها وبقية استحقاقات ميزان مدفوعاتها.
عامٌ واحدٌ كان كافيا أيضا ليفرض على المجتمع المصري نقاشا من نوع مختلف. فالتيارات «الإسلاموية» الأخرى صارت جزءا مهما من هذا النقاش، كما أن مشاريعها ومرجعياتها «الفقهية» (الإيديولوجية بالأحرى) صارت جزءا من المداولات العامة. وبدلا من إعلام التنوير أصبح إعلام الظلام، هو محور الاهتمامات.
وعلى رغم «الاختلاف» المزعوم فيما بين هذه المجموعات، فإن أسسها المشتركة، المعادية للسياسة، اكتسبت زخما دعائيا لا حدود له. وكان من الطبيعي أن يستجلب هذا الزخم استقطابات حادة داخل المجتمع. ومن هذه الاستقطابات، فقد كان من الطبيعي أيضا، أن تنشأ مجموعات تعتزم أو تمتلك القدرة على القيام بأي عمل من أجل أن تفرض رؤيتها على الآخرين، بالقوة أو بالابتزاز.
لستَ بحاجة إلى «نظرية مؤامرة»، ولا إلى علاقات سرية تربط بين جماعة «معتدلة» وأخرى «متطرفة» لكي تكتشف الصلة المؤسِسة للارهاب فيما بين هذه وتلك من الجماعات. يكفي أنها تعمل لصالح بعضها من خلال توجيه النقاش العام نحو المجرى الأيديولوجي الذي تنطلق منه. يكفي أنها تُنشئ أنماطا من الاستقطاب تتجه كلها إلى تكفير الآخر أو تجريمه أو تخوينه، وبالتالي إيجاد المبرر لقتله.
إحدى أهم النتائج التي نشأت بعد سقوط نظام جماعة «الاخوان المسلمين» في مصر هي أن تركة «نقاشهم» العام، أسفرت عن ظهور عصابات مسلحة تسفك دماء الأبرياء، وتبرر لنفسها ما تشاء.
ولكن شيئا آخر بدأ يظهر بعد ذلك، حتى في خضم المحنة، هو أن المصريين عادوا لينشلغوا بقضاياهم الحيوية. مشروعٌ هنا، وبناءٌ هناك، وإصلاحٌ هنالك، لمعالجة القضايا الكبرى التي ستحدد للبلاد مستقبلها.
أما صانعو السياسات في واشنطن وغيرها، فقد واصلوا دعم تنظيمات «الإسلام السياسي المعتدل» حتى الرمق الأخير، ليس لأنهم لا يعرفون أصولها الإرهابية، وليس لأنهم لا يعرفون أنها سوف تقوم بتفريخ تنظيمات دموية متناحرة، بل لأنهم أرادوا لنا أن نغرق في نقاش مختلف، غير نقاش التنمية والإعمار، فيكون ذلك كافيا ليقوم المجتمع، كله على بعضه، بعملية انتحارية ضد بقائه بالذات.