علي الصراف
تصطدم المحاولات الأوروبية في مواجهة الفكر المتطرف بمنظومة قيم ومعايير حقوقية، تجعل من المستحيل على المؤسسات الثقافية والأمنية أن تلاحق الظاهرة، أو أن تحد من عواقبها.
وإذا افترضنا أن حامل الفكر المتطرف هو «مشروع قنبلة»، يمكن أن تنفجر في أي وقت، فالحقيقة المطلقة هي أن كونه «مواطناً» يمنحه حصانة حيال الكثير من الإجراءات الأمنية التي يمكنها أن تحول دون انفجاره.
ومثلما وقعت أوروبا بهذا «الفخ» القيمي أكثر من مرة، فإن دولاً أخرى وقعت بمثله. فالإرهاب «المحلي الصنع»، عدا عن كونه يوفر «قاعدة» ميدانية للإرهاب الخارجي، فإنه بتلك الحصانة يتمتع بكل الرفاهية والوقت والإمكانيات المادية والتكنولوجية، لاختيار أهدافه.
وفي الوقت نفسه، فإن عجز المؤسسات الأمنية الغربية عن تخطي حدود تلك الحصانة يدفعها إلى «التطرف» في ممارسة أوجه أخرى من الرد: القسوة، العنصرية.. إلخ. كما أن المجتمع برمته يعود ليكرر هذا الرد بوسائل تجعل الاندماج مستحيلاً أيضاً: التمييز، البطالة وانعدام المساواة.. إلخ.
السؤال المنطقي الذي لا تجد كل الأجهزة الأمنية جواباً عنه هو: ما نفع أن تضع قائمة بـ»القنابل المحتملة» من دون أن تكون قادراً على تعطيلها فعلاً؟
في وقت من الأوقات، وغداة إعلان دولة داعش، خرجت تظاهرة ضخمة لآلاف المسلمين الذين يعيشون في النمسا وهم يحملون رايات سوداً، وشعارات تدعم «دولة الخلافة». وكانت الشرطة تحمي التظاهرة، وتوفر لها الطريق لكي تواصل مسيرتها الاحتجاجية بأمان واحترام وطمأنينة.
المفارقة كانت واضحة. والدلالة أوضح. وكان النمساويون يمرون على جنبات التظاهرة، وكأن شيئاً لم يكن. بل إن بعضهم كان ينظر إلى التظاهرة وهو يبتسم، ظناً منه أن القصة هي قصة حريات وتعبير عن الرأي.
قد لا يمكن للمرء أن يفهم سبب الاحتجاج؛ فالشوارع نظيفة، وخدمات التعليم والصحة راقية ومجانية. والضمانات الاجتماعية التي يحصل عليها المسلمون هي ذاتها التي يحصل عليها غيرهم. والحقوق متساوية. والبلد برمته متحف طبيعي لفرط الجمال الذي فيه.
ولكن تلك التظاهرة، كما السلوك الفردي لكل حاملي الفكر المتطرف، أظهرت بوضوح طبيعة الانقطاع الحاصل في الربط بين «المجتمعين». إنه انقطاع أشبه بانفصال دائرة التيار الكهربائي لأولئك المتظاهرين عن دائرة التيار العام.
وفي الواقع، فإن محاولات كثيرة تُبذل من أجل استعادة الربط بين هذين «المجتمعين»، ولكن تلك المحاولات لم تنجح فعلياً. ولا حتى بالقليل. فقد ظل «المحتجون» ينظرون إلى المجتمع الذي يعيشون فيه على أنه كافر، وظل الطرف الآخر يتصارع مع نفسه، مُقيداً بقيوده القانونية، ومعتقداً أنها قصة حريات. وظل الشرخ قائماً، ويتعمق باستمرار.
ردود الفعل العاجزة والتعامل الاجتماعي الذي ظل يعمم «الصورة النمطية» للتطرف على كل المسلمين زاد الطين بلة. وظلت المخاطر تزداد، وظل معسكر الإرهاب يكسب من هذه البيئة المزيد من القنابل المرشحة للتفجير.
هذه الدائرة الشيطانية يمكن أن تتوقف. ويمكن لانقطاع التيار الكهربائي أن يكون كلياً وشاملاً.
إنها يمكن أن تتوقف ليس في أوروبا وحدها، بل حتى في الدول الإسلامية نفسها. ولتكن الحرب حرباً، إنما على وجهي المسألة، وليس على وجه واحد منها: التهميش، والتطرف.
لأنك لا تستطيع أن تمارس العنصرية ضد كتلة اجتماعية من دون أن تتوقع منها تطرفاً، كما أن قيمك لن تكون قادرة على أن تفعل فعلها ما لم تكن لعبة على أرض متساوية.
بعد هذا، فهناك منظومات قيم وأخلاقيات ومعايير دستورية واجتماعية وسياسية وثقافية. وهذه المنظومات يجب أن تُحترم، وأن تُمارس في الحياة اليومية لكل مواطن. ومن لا يعجبه فليرحل.
ليس من المنطقي أن يشرب المرء من بئر يعتبرها قذرة. وليس من الأخلاقي أن يأكل من صحن ليبصق فيه.
نعم، تحول الحقوق القانونية دون معاقبة المرء على فكره. ولكن عندما يكون هذا الفكر مشروع قنبلة، ومشروع جريمة وحشية، فإن القصة لن تعود قصة حريات ولا تعبير عن الرأي ولا قانون.
إنها قصة فكر - يقتل، فكر - مغلق، فكر - منفصل، لا يمكن التعايش معه كما لا يمكن إعادة ربطه بدائرة التيار الأخلاقي العام.
يمكن لكل بلد أن يعرض على حملة ذلك الفكر المجرم من مواطنيه أن يقطعوا تيارهم عنه، وأن يرحلوا إلى دولة داعش. لا توجد مشكلة.
«اقبل بنا كما نحن، وبقيمنا كما هي، ومارسها كما نمارسها.. أو ارحل، ونحن ندفع لك ثمن التذكرة».
هذا ما يجب أن يكون.
«عش دينك ومارسه كدين (للحكمة والموعظة الحسنة)، أو ارحل».
«احترم حقنا في التعبير عن الرأي من دون أن تنفجر في النقاش، أو ارحل».
«خذ من الحريات والحقوق والمساواة ما نعطيه لأنفسنا، فإن لم تعجبك، اتركها وارحل».
ببساطة، من لا يقبل قيم مجتمعه فإنه لا يستحقها.
وليكن الانقطاع في التيار تاماً. لا توجد مشكلة. إنه ربما يكون نوعاً من الحل، للفصل بين عالمين لا يمكنهما التعايش أصلاً.