د. خيرية السقاف
نتفق على مر الأزمان، واختلاف القراءات، وتشعب الرؤى، ومكوناتها، ومنطلقاتها، على أن النص الإبداعي غالبا ليس محورا لذات الكاتب مكنونا، ولا ثوبا مفصلا على جسد حياته تفاصيل، بل هو تكوين يستقل، وإن خرج بذراته من شعيرات النسيج ..!!
وبهذا المفهوم عن قراءة مفعمة بالجدية تمادى، واستدام الفعل النقدي للنص الإبداعي، وبلغ أوج ابتكاره منذ، وإلى..، ومن ثم..
لذا تنوعت القراءات للنص الإبداعي بتأويلها المدهش، وبغوصها العميق، والغني، وبمقارباتها المتشابهة، ومفارقاتها المتوالدة، وبتخريجاتها الموحية، والمتنامية، تلك التي تمثل إبداعا آخر، وإثراء متنوعا للمتلقين، بل لأصحاب النص أنفسهم،
فهذه القراءات للنصوص الإبداعية تأتي بعيدا عن التأويل الذاتي لمقاصد، أو معتقدات قارئها، بل هي منوطة بجماليات النص الإبداعي من خلال تدفقه وتدفقها، وموحياته ومقتنصاتها،
هذه القراءات هي إبداع آخر قد يشع بالنص لأبعد ما تكون نجمته، وقد يطفئه بأقرب ما يكون ماؤها،
فهذا القارئ الناقد المختص بالإبداع لا يصدر حكما على نوايا كاتبه، ولا يمس مقاصده، ولا ينبغي له فعل هذا، لكنه والذواقة من غير الناقدين من يعنون بذوقه خيوط نسيج النص الإبداعي، فيوظفونه للجمال وتوالد الموحيات فيه..!
وهذا القارئ السابر يتفاعل مع كيان النص وحده، متجرداً بأجنحته، مختليا إلى رموزه، وومضاته..، مسافراً إلى فضاءاته، ودهشاته..
تلك التي يسعى قارئوه لأن يبلغوها معه، أو يتماسوا مع أبعادها، ومدها الذين يأخذهما مع تماهيه في النص..
إنهما أي المبدع نصه، والمبدع نقده يتفاعلان وهما بعيدان عن ذاتيهما، غير متعمدين عجن النص الإبداعي بما لا يحتمل خارجا عنهما، أو عن غيرهما إنما النص وحده الفعال ..
لذا فإن التعامل مع النص الإبداعي لا يبلغ الغوص فيه من يأخذ النصوص على عواهن رؤيته المفردة، ومكنونه الشخصي الآحادي فكرا، وثقافة، واتجاها، وقصدا، وقسرا،
بل لا ينبغي هذا، ولا يقبل بعيدا عن معايير الاتفاق -على مر الأزمان-، باختلاف، وتطور آليات، ومسوغات ،ومصطلحات، وتخريجات، ونظريات نقد النص الإبداعي المعروفة، وبتنوع نكهات القارئين له.
وكما يتم رفض قبول تحليل معادلة رياضية، أو فيزيائية، أو قراءة تشخيص طبي من غير ذي اختصاص، فإن تأويل النص الإبداعي من شخص لا يمت للإبداع بأنواعه ينبغي أن يرفض، حيث يصدر.
إن قراءة النص الإبداعي موكلة للمبدعين، والذواقة، والنقاد المختصين، وكل مثقف شغوف بعالم الإبداع، وفضاءاته الرحبة، ومنازله من الغموض الجاذب، والشفاف الممتع، والشغف المحرض، والحيرة الموحية، والأسئلة الموقدة، وكمائنه للتأويل، ولتقليب وجوه إشعاعه، واتجاهات بروقه، وفحص خزائنه، سواء كان النص بين أيديهم نثراً سردياً في مقالة، وخاطرة، وقصة، ورواية، أو شعرا في قصيدة، مقفاة، ومرسلة، وذات تفعيلة، وزجلية، ونبطية،..
فهذه عملية تتناص مع النص، تتقارب معه، أو تتنامى به، أو تأخذ به من تلابيبه نحو شعاب القراءة الواعية، ومفازاتها، وانبعاثاتها، لكن، كاتبها،وقارئها لا يضيع كلاهما في وحل التأويل، ولا يسقط أحدهما في براثن بئره..!
فالقراءة الإبداعية كفيلة بتنقية التأويل من غبار الفجاج، وعوالقه، والرقي به حيث تُنزله.
ولأن القراءات للإبداع ذهبت في كل اتجاه، يتناولها كل من يشاء، ويترصدها أي من يشاء
فإن التأويل القصدي للنص الإبداعي أقصى كُتَّابه عن المضمار،
زواهم في صومعاتهم قصيا،
سكب على حماسهم صمتا،
فتركوا المضمار داكنا، مغبرا..!!
ولعلنا أن نلتفت للإبداع، للجمال، للنقاء، للسلام..
نفتح له البوابات، وننتقي له المنازل..
نكتب نصه، نقرأ أبعاده، نحسن تأويله،
نحميه من الفج، والغبار، والدكن،
ومقاصد التأويل..!
فقد علت الفضاءات عوادم المتصنع، وأغبرة الغث،
خنقت أجواء الانسيابية، وعفوية الإفضاء، والذائقات،
فلنطهرها بسلام النص،
سلام كاتبه،
سلام قارئه..!