محمد آل الشيخ
الانفتاح في عصرنا ضرورة وليس خيارا؛ بمعنى إما أن نواكب متطلبات العصر وحاجات إنسانه المعيشية، والمزاج العالمي الذي نحن نؤثر فيه ونتأثر به، أو سوف يفرض العصر منطقه وشروطه في نهاية المطاف بالقوة شئنا أم أبينا. وكل من يراهن على حالة (الثبات)، ويدافع عنها، ويعتبرها جزءا من الهوية التي لا يمكن التنازل عنها، ويفرضها بالقوة على الناس، سيجد نفسه حتما صريعا تحت عجلات عصر لا يعرف إلا الإندفاع بقوة نحو كل جديد، ناسفا في مسيرته كل أنواع الثبات. فالتغير سمة من سمات الحياة وطبيعتها التي جعلها الخالق ديدنا للحياة على الأرض، والنواميس الاجتماعية لا يغيرها الانسان بالأمنيات، والتفكير الرغبوي، فإما التماهي ومواكبة التطور والتغير الإنساني وإلا ستبقى وحيدا في صحراء يحفها السراب من كل جانب.
ولو عدنا فقط إلى الماضي القريب للمملكة، لسبعة عقود أو تزيد قليلا آنذاك، لوجدنا كثيرا من الشؤون الحياتية التي عدّها بعض المتشددين المتكلسين لا تتفق مع تفاسيرهم للدين فضلا عن الهوية وثوابتها، وها هي اليوم أصبحت من المباحات التي لا يجادل عاقل في حِلها وشرعيتها أحد؛ ابتداء من البرقية التي جرى حولها لغط كبير، ومرورا بتعليم المرأة، والتصوير بشتى أشكاله، الثابت منه والمتحرك، وانتهاء بعمل المرأة بحجة ما أنزل الله بها من سلطان، وهي بدعة (حرمة الاختلاط) التي عجزوا أن يأتوا لها بدليل واحد من كتاب أو سنة، والسبب أنها كانت عادة ولم تكن عبادة.
وفي رأيي، وقد كتبت عن ذلك مراراً وتكرارا، أن البيئة المنغلقة المتجهمة الكئيبة، تفرز التشدد مثلما تفرز الجلافة والشحوب، وتدعوا إلى الثبات والتشبث بالماضي إلى درجة اعتباره ضربا من ضروب الهوية التي لا تمس، وتُسوغ له بربطه بالقدسية، مع أن الأصل في الأمور الإباحة والتيسير وليس التغليظ والتعسير، والإباحة هي أيقونة التسامح واللين والوسطية. ولعل من أسباب النزعة الشعبية الحالية نحو التسامح واللين وإقصاء التشدد والمتشددين، أنهم رأوا وعايشوا منتجات التشدد والغلظة والوجوه المتجهمة العابسة القمطريرة، والمتمثله في جرائم (داعش) على الأرض خير تمثيل ممارسة وخُلقا. فأصبحت المعادلة على الأرض التي وعاها الناس مؤخرا تقول : (إما التسامح والأخذ بالعفو والبعد عن الغلو والتطرف وإلا فالنتيجة القاعدة وداعش)؛ وهذان التنظيمان المتوحشان إذا تمكنا ثقافتها من أية بيئة فانتظروا أكواما من الجماجم، وشلالات من الدماء، ناهيك عن فتن لا تبقي ولا تذر. والدليل ما ترونه في سوريا والعراق وليبيا، التي أوغل فيها المتأسلمون المسيسون حتى لم يبقوا حجرا على حجر، وليس من رأى كمن سمع.
وفي تقديري أن من أهم أسباب تكرار مثل هذه الظواهر المتشددة خلال فترات من تاريخ الإسلام الإسلامي، أننا لم نتولَ قراءة هذه الفترات التاريخية الدموية قراءة (نقدية) وبموضوعية منذ أحداث القرن الهجري الأول وحتى اليوم. فعبارة (وأن نمسك فيما جرى بين الصحابة في القرن الأول) كانت في تقديري السبب الرئيس الذي أسس للتعامل مع تاريخنا تعاملا عاطفيا، وليس موضوعيا؛ الأمر الذي حيّد النقد الموضوعي، ورسخ تقديس الصحابة وممارساتهم، مع أن الأصل أنهم رجال لا عصمة لهم ولا قدسية، يصيبون ويخطئون، مثلهم مثل أي مسلم في أي قرن من القرون.
ولدي قناعة عميقة أن من أسباب الإرهاب، واستدلالات الإرهابيين من التراث، أن هذا التراث الموجود قي تاريخنا القريب والبعيد لم تتم قراءته قراءة نقدية موضوعية محايدة، كما يجب أن تكون القراءة العلمية، وهذا ما جعل هذا التاريخ ماثلا في كتب التراث، دون أن تمسه آليات النقد العلمي الموضوعي، وما لم نترك العواطف التي كبحت جماح الأقلام من النقد، فإن تجلياته ستعود مرات ومرات، معضلة في المستقبل، كما هو معضلة في يومنا الحاضر.
إلى اللقاء