محمد آل الشيخ
كان من الطبيعي أن تصب أحداث باريس الإجرامية في مصلحة اليمين الفرنسي المتطرف، وكان هذا هو المتوقع، وقد تطرق إليه جميع المحللين بعيد هجمات باريس التي نفذها متأسلمون إرهابيون فرنسيون من ذوي أصول عربية.
وغني عن القول إن تجار البغضاء والكراهية في أي دولة كانوا والذي يمثلهم في فرنسا خير تمثيل اليمين الفرنسي المتطرف، هم مثل الذباب الذي يجد غذاءه ويقيم أوده من مآسي الآخرين؛ لا فرق في ذلك بين واعظ يبيع الكراهية في بلاد العرب والمسلمين حين يعتلي منبر جمعة، ويغلف أقواله بقال الله وقال رسوله، أو فرنسية مكتظة بالحقد تعتلي منصة انتخابية وتدعو في المقابل إلى الكراهية ذاتها، بشكل عام، وبشكل خاص كراهية العرب والمسلمين لأسباب محض انتخابية مثلما تفعل ماري لوبان في فرنسا؛ فالنتيجة بين ذاك وتلك واحدة، والخاسر في النتيجة ليس البلد ذاته الذي تكرس فيه مثل هذه الدعوات العنصرية القميئة فحسب وإنما الانسانية جمعاء, حيث ستكون تأثيراتها السلبية عميقة خاصة على السلم والأمن الدوليين، ولا سيما والعالم اليوم يعيش في ما يشبه القرية الواحدة، ولا يمكن لأي دولة أن تعيش منفردة وتستغني عن الآخرين والتبادلات التجارية معهم؛ ومثل هذه الدعوات من شأنها أن تجذر الكراهية والبغضاء والتباعد بين الشعوب، الأمر الذي سيجعل العنصرية البغيضة تتكرس وتتجذر بشكل وبائي بين شعوب الدولة الواحدة، وكذلك ستمتد تأثيراتها لتسمم البيئة الإنسانية، وتجعلها بيئة مهيأة لنمو الحشائش القاتلة.
الأوربيون والعقلاء منهم بالذات يدركون ذلك غاية الإدراك، ولذلك ظلت الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى التمييز العنصري كامنة في هامش الهامش في جميع الانتخابات واستطلاعات الرأي، ربما أنها تأتي أحياناً وفي حالات نادرة كبيضة القبان مرجحة بين الأحزاب الكبرى المتسيدة، لكن أن تأتي قي الصدارة فلم يعرف التاريخ الأوربي بعد الحرب العالمية الثانية توجهاً سياسياً ينذر بمثل هذه المؤشرات الخطيرة.
غير أن أحداث باريس الأخيرة يبدو أنها غيرت المزاج الأوربي، وجاء لأول مرة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في الصدارة، مقصياً خلفه الحزبين الفرنسيين الكبيرين الحزب الاشتراكي والحزب اليميني المعتدل، وهذا يعني أن الدواعش حققوا فعلاً ما يصبون إليه من عملياتهم في الغرب، وغايته إشعال جذوة العداوة والبغضاء بين الغربيين من جهة وبين العرب والمسلمين من جهة أخرى. ماري لوبين زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية الوطنية المتطرفة التي يقوم خطابها السياسي على كراهية كل ما هو غير فرنسي ومن أصول فرنسية تعيش هذه الأيام أوج سلطتها، وتتغنى بصوابية توقعاتها، وهذه المرأة هي هتلر ولكن في صورة امرأة، تثير في خطاباتها السياسية كلاماً من شأنه إثارة النعرات العنصرية في أبشع وأقبح صورها، وتبحث عن التهويل والإرجاف في كل ما من شأنه إقناع الإنسان الفرنسي البسيط بأن الفرنسيين المسلمين يسعون إلى استبدال الدستور الفرنسي بالشريعة الإسلامية!.. أعرف يقيناً أن اليمين المتطرف لا يمكن أن يتسيد المشهد الفرنسي، لأن ذلك لو حدث فإن سبعة ملايين فرنسي لن يقفوا صامتين وسوف يضطرون مرغمين إلى الاحتجاجات السلمية وغير السلمية ما الله به عليم، غير أن القضية الخطرة التي يجب أن نأخذها في الاعتبار أمران : أولهما أن كثيراً من مضامين الخطاب اليميني المتطرف سيضطر إلى تبنيه ولو جزئياً بقية الأحزب السياسية الأخرى، خاصة ما يتعلق بالتضييق على الممارسات الدينية داخل فرنسا، بحيث تكون المعادلة (أنت مسلم إذاً أنت محل شك حتى تثبت العكس). الأمر الآخر أن العدوى لن تتوقف عند الفرنسيين فحسب وإنما ستتعداها إلى بقية الدول الأوربية الأخرى، لتصبح الثقافة الإسلامية مصدراً من مصادر المساس بالأمن والاستقرار، وهذا لن يؤثر فقط على الداخل الأوروبي، والمسلم الأوربي فحسب، وإنما ستمتد لتشمل حتى مواطني الدول الأخرى، وكذلك على العلاقات بين الدول العربية والإسلامية من جهة والدول الأوروبية الأخرى، وغني عن القول إن مثل هذا التباعد والفجوة الخطيرة من انتشار هذا الشعور هو بلا شك سيكون له تأثير عميق بشكل مباشر أو غير مباشر على برامج التنمية والتحديث في البلاد التي في حاجة إلى التنمية الشاملة، وهنا مكمن الخطورة.
إلى اللقاء