د.عبد الرحمن الحبيب
خلال الآونة الأخيرة ظهرت بعض سمات التآكل على تنظيم داعش، لكن بدلاً من أن يركز على ترميم وضعه الداخلي، قام بتصعيد حاد في أعماله التدميرية بعيداً عن مناطق سيطرته، بطريقة تحفز على استعداء الجميع ضده.. جميع العالم بلا استثناء.
قبل تفجيرات باريس كانت مشاركة فرنسا رمزية في ضرب داعش، وقبل تفجير الطائرة الروسية كانت روسيا توجه أغلب ضرباتها للمعارضة السورية مخلية الدرب لداعش.. كان هناك حالة دولية من «غض الطرف» عن داعش تجنباً - على ما يبدو - لمواجهة حازمة على اعتبار أنه خصم انتحاري أرعن سيقع بنفسه في فخاخ اندفاعه الأهوج، إلا أن داعش يستفز الآخرين لمواجهته.. حتى التنظيمات المنافسة له تجنبت مواجهته وهو لا يتوانى عن قتالها في أية مناسبة.
هنا يتعجب المرء: ما الذي يدعو داعش لاستعداء الجميع ضده؟ هناك ثلاثة احتمالات؛ ولكن قبل طرحها، ثمة مؤشرات بأن أغلب أعمال التفجير الإرهابية التي يتبناها داعش متفاخراً لم يخطط لها أو يمولها، بل هي من خلايا إرهابية مستقلة عنه كانت نائمة واستيقظت مع قسوة الأزمة الإِنسانية في سوريا والعراق، وقد وضعت ماركة داعش لعملياتها لإضفاء الإثارة والاهتمام العالمي.
أما احتمالات أسباب استعداء داعش للجميع فإنَّ أولها هو العقوبة والردع لمنع الدول من ضربه، على اعتبار أن إيقاع خسائر بشرية فادحة في البلدان التي تقوم قواتها بضرب داعش سيدعو شعوب تلك الدول بمطالبة حكوماتها بالانسحاب، أو أن تلك الحكومات الغربية قد ترى أنه لا جدوى من تكبد الخسائر في المنطقة فتنسحب. الفكرة الأخيرة هي من أدبيات تنظيم القاعدة التي تفرع منها داعش بطريقة أكثر وحشية، وكما نجدها في كتاب «إدارة التوحش» وأمثاله.
هذه الأدبيات موجودة أيضاً في مذكرات من يُعتقد أنه العقل المدبر لتخطيط استراتيجية وتكتيكات داعش، حاجي بكر (عقيد سابق بالمخابرات الجوية لصدام حسين) الذي قُتل عام 2014، وفحواها أن قتل المدنيين في أرض الأعداء إما أنه سيمنعهم من التدخل أو على العكس سيؤدي لمزيد من الرد المبالغ فيه مما يؤدي لاستنزافهم وإنهاكهم. ومشابه للحالتين سبق أن حدث فعلاً، الأولى مع أمريكا عندما انسحبت بعد تفجير المارينز في لبنان عام 1983م، والثانية مع الاتحاد السوفييتي بعد دخوله بكل قوته في أفغانستان حتى استنزف بمرارة فاضطر للانسحاب مثخناً بجراحه عام 1988م..
ما يضعف هذا الاحتمال هو أن داعش قام بالتفجير في تركيا رغم أنها لم تتعرض له ولم تعترض سبيله.. كما أن الدول البعيدة جداً التي لا علاقة لها بالصراع مثل النرويج والصين قام داعش قبل أيَّام بقتل رهينتين نرويجية وصينية! لذا ننتقل للاحتمال الثاني وهو الدعاية والترويج بتحقيق انتصارات إعلامية لداعش تساعده في تجنيد المزيد، خاصة أنه بدأ يفقد وهجه السابق ويتعرض لمزيد من الضغوط والخسائر. هنا، داعش بحاجة لأن يكون في واجهة الإعلام.
أن يخسر داعش جراء أعماله الإرهابية مزيداً من الناس وينال مزيداً من الأعداء فهو تحصيل حاصل بالنسبة له، لأن الغالبية أصلاً ضده، لكن قيادات داعش تستهدف التأثير في الأقلية المتطرفة. إن أعماله العدوانية هدفها لفت الانتباه، كي يبقى دائماً محط الأنظار ومتداول إعلامياً لتصل للأقلية المتطرفة الموجه لها الرسالة لتوقظ خلاياهم النائمة وتستقطبهم للعمل الإرهابي. الإنترنت سهَّلت هذا الأمر، كان الفرد الذي يرغب في عمل انتحاري يائساً وبائساً، نادراً ما ينفذ عمله لأن تأثيره لحظي بلا فاعلية.. صار أمثالهم أكثر جرأة وتكراراً في عالم اليوم. داعش، إذن، يظن أنه يربح جراء هذا الاستعداء، ولا سيما أن أعماله تكون مصحوبة بصور بشعة تحبس الأنفاس.. إنها الإثارة البصرية التي يستغلها الإرهابي في زمن الصورة الإنترنتية التي تغطي على كافة الأخبار.. هنا، داعش دائماً يتصدر الأخبار!
ما يدعم جزئياً هذا الاحتمال اعترافات ظهرت الأسبوع الماضي لمنشق أطلق على نفسه أبو خالد، ذاكراً أنه كان عضواً في الجهاز الأمني لداعش، وصدرت حتى الآن أربعة أجزاء في ديلي بيست الأمريكية. يقول: «سبتمبر العام الماضي، في أوج طفرة تجنيد الأجانب لداعش، كان تدفقهم يدهش حتى أولئك الذين يرحبون بهم.. كان يصلنا نحو ثلاثة آلاف مقاتل أجنبي يومياً.. أما الآن فيصلنا ما بين 50 أو 60.. وقد أدَّى هذا النقص المفاجئ إلى إعادة التفكير من القيادة العليا في داعش لكيفية الاستفادة ممن هم خارج سوريا والعراق.. أهم شيء، هو أنهم يحاولون صنع خلايا نائمة في جميع أنحاء العالم.. قيادة داعش طلبت من المؤيدين البقاء في بلدانهم والقتال هناك، وقتل المواطنين، ونسف المباني، وكل ما يمكن القيام به...».
الاحتمال الثالث عقيدة قادة داعش الغيبية حول اقتراب حرب هرمجدون، التي تؤمن بحتمية وقوع حرب عالمية نهائية تتحالف بها كل قوى الأرض الكافرة ضد قوة مؤمنة. استفزاز داعش للعالم خاصة الغرب يهدف إلى استعجال المعركة الأخيرة التي يؤمن قادة داعش أنها ستكون في مرج دابق.. ثم ظهور المهدي الذي يقوم بقتل المسيح الدجال. لا ننسى أن داعش بالأساس استعجل إعلان الخلافة على الأرض حتى قبل تشكله كشبه دولة، ولم يتبع خطوات تنظيم القاعدة في التأني وضرورة التمكين وتهيئة الظروف المناسبة لقيام دولة.
يمكن جمع الاحتمالات الثلاثة سوياً أو أجزاء منها كأهداف استراتيجية لداعش.. الهدف العام لداعش هو إقامة خلافة عالمية على الأرض، تنشأ عبر حرب دائمة حتى تقوم الساعة. أما الأهداف التفصيلية فهي ثلاثة: البقاء والتمدد وحرب هرمجدون.. الهدف الأول (البقاء) يتحقق عبر الدفاع المستميت عن المناطق التي احتلها في العراق وسوريا؛ مع الهدف الثاني (التوسع) عبر عمليات التجنيد والتفجير في أي مكان خارج دولة داعش والدعاية لها، لحين تحقق الهدف الثالث بالحرب العالمية الثالثة والأخيرة.
من ناحية أبجديات التاريخ السياسي فتلك استراتيجية عدمية؛ لكن طالما أن هناك إيديولوجيا شوفينية فالعمى هو قائدها.. وإذا كان داعش يظن أنه سينهي التاريخ بدراويشه الانتحاريين فقد سبق لشوفينيات كانت تمتلك علماً متقدما وتكنولوجيا فائقة أن قالت بنهاية التاريخ لصالحها فخيَّب التاريخ مسعاها.. فما عسى التاريخ أن يقول لدراويش داعش..؟!