د. محمد البشر
أتيحت لي الفرصة عندما كنت سفيراً في الصين أن أزور منغوليا الداخلية، وهي جزء من الصين، وقضيت ثمانية أيام بين قبائلها التي تعيش على حليب النوق، ولحم الإبل، وتصنع جل ملابسها وحتى جزء من مساكنها من أصوافها وأوبارها، إضافة إلى الخراف التي تستفيد منها مثل استفادتها من الإبل بنسب متفاوتة من كل منتج من منتجاتها الكثيرة والمباركة، وهي التي أعتمد أجدادنا الأوائل في جزء من احتياجاتهم، على ما منحته من مواد خام، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ*وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ}.
وإن كان الطقس هناك مغايراً في الشتاء لشدة البرد، وتساقط الثلوج، مما يجعل أولئك المغول يبنون حجراً صغيرة من الطين بطريقة معينه تقيهم قساوة البرد، فإن هناك الكثير من أساليب الحياة المتماثلة مع ما هو موجود في البلاد العربية، ولم يغب عن ذاكرتي منظر نادر حدث أثناء إحدى زياراتي إلى منغوليا الداخلية لشراء بعض الإبل، فبعد أن قصدنا أحد ملاك الإبل بمعونة أحد القائمين على شئونهم، وتم تجميع الإبل للاختيار فيما بينها، وقع الاختيار على أحدها، من ضمن مجموعة منتقاة، فتقدم المالك المنغولي لذلك الجمل، ومسح على ظهره، ورقبته، ثم وقف صامتاً أمامه وذرف الدمع، وكانت عيناه تزداد ذرفاً في كل لحظه، والجمل يطأطئ برأسه، وهو واجم، كأن على رأسه الطير، فوقفنا مشدوهين من ذلك الحب الصادق الخالص بين إنسان وحيوان، وأخذتني الذاكرة إلى بعيد، وتمنيت في نفسي، لو قيض الله لي من بني الإنسان من يحبني ذلك الحب الصادق الخالص النقي من الشوائب، والقابل للاستمرار دون نقصان، لأعيش كما عاش هذا المنغولي مع جمله المبادل له الحب.
وكما أتيح لي زيارة منغوليا الداخلية، فقد أتيح لي زيارة منغوليا الخارجية، وكان طعامنا هناك اللحم، ولبن الخيل والإبل لمن يستسيغه، وهي صحراء لا يحجب نظر الرائي شيء سوى السراب الذي يحسبه الظمآن ماء.
في ظل هذه الصحراء عاش جنكيز خان الذي أراد أن يحكم العالم وكاد، لولا الكفاءة الحربية للظاهر بيبرس، ودارت حوله الأساطير منذ ولادته حتى وفاته، ومن تلك الأساطير أنه قد ولد وهو قابض على نقطة دم متخثرة، دلالة على أنه ولد ليكون مقاتلاً مدى حياته، وفاتحاً للأمصار، ومثل هذه الرواية نجدها عند البوذيين في الهند، وكذلك الإيرانيين، وعندما بلغ التاسعة من عمره ذهب به والده ليبحث له عن زوجة كما هي عادة المغول، وكان من العرف السائد أن تكون الزوجة من قبيلة والدته وكان اسم والدته ويلون، وفي الطريق التقى بهم أحد أفراد أسرة والدته وسأل الوالد عن وجهته، والغرض من سفره فذكر له أنه ذاهب للبحث عن زوجة لابنه، فقال له على رسلك: إن لدي ابنة جميلة عمرها عشر سنوات، ثم نظر إلى الابن وقال: لابنك نظرة كالنهار، ووجه مضيء كالفجر، وقد حلمت هذه الليلة أيها النسيب كأنما هبط على يدي صقر أبيض قابض في مخلابه الشمس والقمر، وسارا معاً حتى دخلا بيت النسيب، وعندما رأى الابن الزوجة المقترحة لابنه، ورأى أنها جميلة وافق على زواج ابنه منها.. ومن عادة المغول أن يتركوا الابن في بيت والد الزوجة لمدة ثلاث سنوات ليتعرفا على بعض، وقدم الأب فرسه هدية للنسيب الجديد، كما ترك ابنه محفوفاً برعاية الصهر الجديد، وفي طريق عودته قابل بعض القبائل التتارية المناوئة له وقد بلغ منه العطش مبلغه، وكانوا منهمكين في الرقص والغناء لمناسبة كانت هناك، فشاركهم فرحهم، لكنهم عرفوه ودسوا له السم في الشراب، ومات بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى داره، وقبل الوفاة استدعى أحد أعوانه المخلصين، وطلب منه أن يرعى أطفاله الصغار، وأن يحضر ابنه الصغير جنكيز خان من دار صهره ليعيش مع إخوانه وهكذا عاد جنكيز خان إلى بيت والده ليعيش مع أقربائه وإخوانه.
وفي التاريخ السري لجنكيز خان، وهو ما لم يتجرأ أحد أن يذكره علناً من المؤرخين المعاصرين له، ولأبنائه من بعده، هو تلك القصة التي وقعت بينه وبين أحد إخوانه، حيث إن لديه ثلاثة إخوة أشقاء وأختاً شقيقة واحدة، وعدداً من الإخوة من زوجات مختلفة، وقد ذهب الإخوة ذات مرة إلى الصين فاصطاد جنكيز خان سمكة لكن أحد إخوته، أخذها منه عنوه، فكانت خصومة بين الاثنين، وعند عودتهما إلى المنزل، وبعد أن علمت الأم بما حدث، عجلت برأب الصدع، والحرص على التكاتف كما هي قيم أفراد القبيلة الواحدة، لكن جنكيز خان أسر ذلك في نفسه، واتفق مع اثنين من إخوانه على قتل أخيهم، فكان لهم ما أرادوا، وهذا ما لم يجرؤ المؤرخون المعاصرون له أن يذكروه، لكن التاريخ السري حفظ لنا هذه الحادثة السوداء في تاريخ ذلك الغازي الجبار البعيد عن الحضارة.. هذه واحدة، ولكن من الوقائع التي ارتكبها وغيره، ولم يسطرها التاريخ العلني والسري.. بينما كثيراً ما ينسج المؤرخون أساطير حول المشاهير.