إبراهيم عبدالله العمار
قال الإمام الشعبي: لو أنّ رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره، رأيت أنّ سفره لم يضع.
وهذا ما طبّقه الشعبي والعلماء في الماضي رحمهم الله، فكانوا يكادون يقتلون أنفسهم في طلب العلم، يبدأون منذ شبابهم ولا يتوقفون عن طلبه أبداً، كما قال الإمام أحمد: مع المِحبرة إلى المقبرة. اليوم حلقة أخرى من سلسلة «ملوك الماضي يحسدوننا» والتي نقارن فيها بين حالنا اليوم وبين حال الأسبقين، وكيف أنّ لدينا من النعم والتيسير ما لم يكن عند أعظم ملوك الأرض في السابق. من يقرأ قصص علماء الماضي رحمهم الله، يجد الأعاجيب في همتهم لطلب العلم والمشاق العظيمة التي صبروا عليها ليدرسوا القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما قاله الشعبي في الأعلى، فقد كان العلماء يقطعون المسافات الشاسعة للعلم، وليس بالضرورة ليجدوا كتاباً كاملاً بل أحياناً قِطع صغيرة من العلم، كما قال سعيد بن المسيب: « كنت أغيب الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد»، وانتقلت هذه إلى تلاميذه كما قال الزهري : تبعت سعيد بن المسيب في طلب حديث ثلاثة أيام. وقضى الزهري 45 سنة يسافر بلا توقف بين الشام والحجاز لطلب العلم، ولا تنسَ المشقة العظيمة في السفر على الدواب، ليس كسفرنا اليوم الهيّن. وقال يحيى بن سعيد القطان لما سُئل عن طلبه للعلم: كنت أخرج من البيت قبل الغداة (الفجر) فلا أرجع إلى العتمة (العشاء). يجلس على هذا الحال سنين! وقال أحدهم: مات ابنٌ لي، فلم أحْضُر جِهازَهُ ولا دفنه وتركتُهُ على جيراني وأقربائي ، مخافةَ أن يفوتني من أبي حنيفة شيءٌ لا تَذهَبُ حسْرَتُه عنى.
أرأيتهم التضحية في طلب العلم؟ لكن هذا كله اليوم صار ليس بنفس الضرورة، لأنّ العلم متوفر الآن بشكل لم يحدث أبداً في تاريخ البشر، فالكتب متوفرة في كل مكان، والمذياع والتلفاز تبث العلم بلا توقف، والعلماء سددهم الله يظهرون في الإعلام لتعليم الناس القرآن والحديث والفقه، والتقنية تتيح لدرسٍ ألقاه عالم قبل 40 سنة أن يُسجّل وأن يسمعه أي شخص في أي مكان، فليس الدرس كما في الماضي يُلقى ولا يستمع له إلا الحاضرون. ومع تطور التقنية ظهرت أشياء اليوم لم تكن موجودة قبل سنين بسيطة، مثل الكم الهائل من العلم الموجود على الإنترنت، والتي صارت الآن في جيب الشخص (الجوال) يحملها مع إلى أي مكان، فإذا أراد معرفة تفسير آية أو تخريج حديث/ استطاع أن يبحث في هاتفه سواء كان في صحراء الجزيرة العربية أو في أدغال أفريقيا أو في مباني أوروبا أو حتى في جزيرة في المحيط!
نعم، العلم اليوم صار ميسوراً موفوراً، يجده المرء في كل مكان، لكن هل بقيت الهمم؟ هل مِن همةٍ تجعل الشخص يستفيد من هذه الأكوام من العلم؟