محمد آل الشيخ
داعش حتماً ستنتهي وتتلاشى طال الزمن أو قصر، لأن ثمة أسبابا موضوعية في منهجها الاستدلالي لا يمكن أن تصمد به أمام منطق العالم المعاصر، إضافة طبعا إلى أن العالم بكل قواه العسكرية، يقف موقف رجل واحد - وإن اختلفوا في بعض التفاصيل - لسحقها وسحق خلافتها المفبركة، المتكئة على روايات تاريخية، الله وحده هو الذي يعلم عن صحتها.
غير أن الداعشية كأيديولوجيا سياسية سيلجأ إليها المحبطون، والثوريون على أوضاعهم الاجتماعية والنفسية، وربما السياسية أيضا لعقود طويلة قادمة.
ولكي نواجه داعش مواجهة فكرية، لا تختبئ خلف إصبعها، ولا تمارس أسلوب النعامة التي تقول الأسطورة إنها إذا أحاط بها عدوها، غرست رأسها في التراب، يجب أن نعترف أنها في منهجها، وفي طرق استدلالاتها، وفي مرجعيتها، لا تختلف اختلافا كبيرا عن منهج الإسلام السني في الاستدلال، اللهم إلا في تطرفها وإمعانها في الغلو. لذلك تجد كثيراً من المشايخ يتحاشون أن يردوا عليها، وعلى تأصيل مقولاتها، ومرجعية حوادثهم التاريخية.
وهذا في تقديري سبب لجوئهم للعموميات وتحاشيهم الخوض في التفاصيل الاستدلالية للدواعش ولا يستطيعون تفنيد نهجهم في استنباط الدليل من المرجعيات السنية، ومن ثم تطبيقه، لأنهم يدركون أنهم إذا ردوا عليهم، أو على دمويتهم، أو على ممارساتهم السياسية، خاصة في قضايا الجهاد والسبي، فهم في النتيجة يردون على آليتهم الاستدلالية في استنباط الدليل. لذلك فهم يكتفون بالعموميات عن الخوض في التفاصيل، وعن الاتجاه بشكل مباشر إلى تأصيلاتهم بالالتفاف عليها، والمواربة وعدم المواجهة؛ وليس لدي أدنى شك أن فيروسات داعش ستبقى، ولن تُجتث من بيئتنا الدينية، لأن اجتثاثها يحتاج موقفا صارما يُراجع أول ما يُراجع آليات الاستدلال الموروثة من فقهاء الأصول، ويتم نقدها نقدا موضوعيا بكل شجاعة، وعقلانية، فنتائج هذه الآليات هي ما نعاني منه، إضافة إلى أن العلم أي علم إذا لم يكن قابلا للتطور ومواكبة النوازل الزمنية، فلا يمكن أن يكون صالحاً للبقاء ناهيك عن الاستمرار، وسوف يواجه من التحديات النظرية والواقعية، ما يجعله في النتيجة أثراً بعد عين.
خذ مثلا قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهي قاعدة اساسية في استنباط الأحكام الفقهية من الأدلة بعد التأكد من صحتها، هذه القاعدة هي مقولة فقهية قياسية، لكنها مع الزمن وبفعل التقادم، أصبحت قاعدة فقهية مقدسة، اتفق عليها وعلى استقامتها كل المذاهب السنية الأربعة، وكل فقهاء المذاهب الأخرى. فماذا تعني هذه القاعدة؟.. تعني أن الفقيه عليه ألا يكترث بالأسباب والسياقات والظروف التي أنتجت النص، وإنما العبرة بالعموم، دون أن يلتفت إلى أسبابه، وزمنه، وما احاط به من ظروف، ومن يعود إلى فقه داعش، ومناهجها التعليمية في الرقة في سوريا، أو في الموصل في العراق، يجد أنهم في جميع استدلالاتهم يطبقون هذا النهج تطبيقا حرفيا ولا يحيدون عنه قيد أنملة.
وأوردت فقط هذه القاعدة لأنها تجسد تجسيدا نموذجيا ما أنا بصدده، وقد أوردتها على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فإن الشواهد في مجال الخلل في التأصيل كثيرة. وداعش والقاعدة صنوان، والفروق بينهما طفيفة، ولن أضيف جديدا إن قلت إن الإرهاب المتأسلم الذي لا يعاني العرب والمسلمون منه فحسب، وإنما يعاني منه العالم أجمع، منبعه الفقهي عدم إعادة التفكير في أصول الفقه، وآلية الاستدلال، وإصرارنا على عدم تجريد النصوص من أسبابها وظروفها، هي أس المشكلة ومكمن الداء.
وغني عن القول إن المريض، أي مريض، لا يمكن أن يسلك مسالك الشفاء من مرضه إلا حينما يتجنب مسبباته ودوافعه. وكذلك لا يمكن القضاء على الإرهاب الديني، إلا إذا غصنا في أسباب مشاكله، وشخصناها بشجاعة، ولم نكابر ونغالط ونصر على تلك المسببات.
أعرف أن حلا كهذا يحتاج إلى جرأة عالم متمكن مقدام، وأعرف أيضا أنه حل مؤلم، وقد يكون له تبعات و يستغرق زمناً حتى تتبرمج به وجدانيات الفقهاء والعوام، لكننا يجب أن نبدأ من الآن، ونسخر له ولتكريسه كل العوامل التي تجعل منه حقيقة مستقرة في الثقافة الإسلامية؛ واذا كان آخر العلاج الكي فهذا آخر العلاج.
إلى اللقاء.