عبدالعزيز السماري
لا يمكن فصل متلازمة الأخلاق عن القوانين أو التشريعات، فالقوانين التي لا تستند إلى معايير أخلاقية تفقد قيمتها واحترامها والالتزام بها عند التطبيق، لذلك دائماً ما تصل الحضارات إلى نقاط مفصلية في التاريخ، يحدث عندها انهيار تام للتشريعات التي فقدت مصداقيتها الأخلاقية، ولعل العامل الأكثر أهمية في هذا المسار هو عامل العدالة.
كان انهيار حكم الكنيسة والإقطاع في أوروبا إيذاناً بسقوط الأخلاق الدينية المسيحية، بعد أن دنّستها السلطة برغباتها في الاستئثار بالثروة والحكم، فكانت النتيجة سقوطاً مدوياً للأخلاق المسيحية، ومن خلال هذه الزاوية قد نفهم لماذا بدأ عصر الفلسفة في الغرب، ولماذا بدأت مرحلة أنسنة الأخلاق، وقد أخذت زمناً طويلاً للوصول إلى البناء الأخلاقي الجديد.
كانت أوروبا على موعد في عام 1785 ميلادية مع نقطة تحول، فقد صدر في هذا العام كتاب أسس ميتافيزيقيا الأخلاق لإيمانويل كانط، والذي حرر السلوك الأخلاقي من قيود الميول والأهواء، ولهذا استبعد كانط اللذة والمنفعة والسعادة كغاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، وجعل الباعث يقوم في الإرادة نفسها، وبذلك ارتدت عنده الأخلاقية إلى مبدأ الواجب، ومن خلال هذا المفهوم خرجت حقوق الإنسان والديموقراطية وقوانين المساواة أمام القانون، وعدم التفريق بين الناس على أسس إثنية أو طائفية أو دينية.
كانت أعمال كانط تدشيناً لبدء مرحلة نشوء الأخلاق الجديدة في الغرب، بعد انهيار الأخلاق المسيحية وفقدانها للمصداقية، والتي ارتبطت بالتعسف والاستبداد، والأهم من ذلك عدم العدالة في التشريعات الصادرة، فقد تم تقسيم المجتمعات أثناء حكمها إلى طبقات، وإلى دماء زرقاء نفيسة الثمن، وأخرى رخيصة، وليس لها أدنى حقوق..
كانت أطروحة مونتسكيو السياسية في كتابه روح القانون لها أيضاً تأثير هائل على الفكر السياسي في الغرب، وقد أمضى مونتسكيو حوالي عشرين عاماً في البحث والكتابة، وقد شمل في كتابه العديد من الأمور كالقانون والحياة الاجتماعية ودراسة علم الإنسان وضمّنه حوالي 3000 توصية في الكتاب، وقد دافع مونتسكيو عن الدستور ومبدأ فصل السلطات وإلغاء الرق، والمحافظة على الحريات المدنية والقانون، وفكرة أن المؤسسات السياسية يجب أن تعكس المظاهر الاجتماعية والجغرافية للمجتمع..
يُواجه المجتمع العربي حالة مشابهة لما كانت عليها أوروبا ما قبل عصر الأنوار، فالأخلاق الإسلامية التي كانت يُضرب بها المثل في كماليتها ومثاليتها تواجه امتحاناً عسيراً في هذه الأيام بدرجة غير مسبوقة، بعد أن أصبحت ملاذاً للأطماع والأهواء، ولإشباع الرغبات والملذات والأحاسيس، كان من نتيجتها أن فقدت بعض المرجعيات الدينية مصداقيتها أمام المجتمع، وتأثرت بسببها مصداقية الأخلاق الإسلامية في المجتمع، فالرجل المتدين لم يعد يحظى بتلك المصداقية العمياء، كما كان قبل عدة عقود.
كان جوهر إشكالية الأخلاق الإسلامية في هذا العصر هو غياب ميزان العدالة عنها، فظهر التسلط والطبقية والاستئثار بالثروات باسم هذه الأخلاق، وقد أدى تشريع التلذذ بالنساء في زواج المسيار والمسفار تحت ستار الكذب إلى شرخ كبير في المرجعية الأخلاقية الدينية، والذي منح الرجل حق الكذب وإخفاء الحقيقة عن زوجته من أجل الاستمتاع بامرأة أخرى، وأحدث ذلك تصدعاً في جدار الأخلاق الإسلامية..
كانت الطامة الكبرى في أخلاقية فتوى تشريع قتل الناس الآمنين في منازلهم والمساجد باسم الدين، والذي جاءت به الجماعات الدينية المتطرفة، وكان له جذور في بعض الكتب الدينية، وصاحبها دعوات جواز اغتصاب النساء تحت ذريعة الرق الحلال، وقد كان ذلك بمثابة الضربة القاضية لمرحلة طويلة نسبياً من التاريخ الإسلامي، كانت فيها الأخلاق الدينية ذريعة للاستبداد بحقوق الناس وكرامتهم.
نحن الآن في مخاض قد يطول، ولكن قد نخرج منه ببناء أخلاقي جديد، ضميره الواجب الأخلاقي الذي يجب أن يقوم على العدالة، والدين الإسلامي في محكم نصوصه يؤكد على ذلك، والذي تنص على وجوب مفهوم العدالة الأخلاقي، لكنه التشويه الذي حدث من قبل بعض الوعاظ أثّر على معانيه النقية في مراحل الاستبداد باسم الدين، وقد نحتاج إلى فقهاء مختلفين عن النمط السائد من أجل إعادة الأخلاق الإسلامية إلى قانون العدالة الإلهي، أو الاستسلام التام للانتقال إلى مرحلة أنسنة الأخلاق وإعادة بنائها، والله المستعان.