عبدالعزيز السماري
الثقافة أو تلك الرغبة الجامحة للبحث بين السطور عن الأفكار والأجوبة حالة اجتماعية لا يمكن أن تخلو منها المجتمعات أياً كانت منذ القدم، فدائماً ما تجد شخصيات تجيد فن الإبحار في عالم الأفكار، لكنها تظل معلقة بين السماء والأرض أو بين الشك واليقين، وذلك لأن الأسئلة لا تتوقف عن التوالد والتكاثر كلما توصل المثقف إلى فكرة جديدة.
لذلك لا يمكن أن تعيش الشخصية القلقة بالأفكار قريباً من الجدران أو تحت الأسقف، فالثقافة عالم ليس له سقف أو حدود أو أرضية يقف عليها، ولابد أن يتمتع بحرية التفكير بلا حدود، ولهذا السبب يعاني المثقفون الأحرار من البوح بأفكارهم، وقد تصل حد معاناتهم إلى ما لا يحمد عقباه، وعادة ما يُسيء تيار التقليد فهمهم.. وتعتبر هذه الإساءة في الفهم الوسيلة الأجدى لنشر أفكار المثقفين الأحرار بين الناس.
دائماً ما يكون المثقف الأقل أيدولوجية أو ارتباطاً بمصالح دنيوية الأكثر قدرة على إطلاق حرية التفكير لديه إلى آفاق جديدة، لذلك يكون من الصعب تقبل عبارات مثل الرئيس المثقف أو الحاكم المثقف لأنهم يمثلون حالة السقف أو الحدود العليا للسلطة، وإذا حصل ذلك تكون لها كوارث قد تصل إلى حد انهيار البلاد، فالثقافة ليست حالة سلطوية على الإطلاق.
في تاريخنا القديم حاول الخليفة المأمون أن يمارس الدور المزدوج في أن يكون حاكماً ومثقفاً، وخلفت محاولة فرض أفكاره على الجميع كارثة حضارية، والتي وصلت آثارها إلى امتحان الناس، وبالتالي تمزيق المجتمع العربي إلى طوائف أدت في نهاية الأمر إلى اختفاء ميزة التعددية أو قبول الرأي والرأي الآخر في المجتمع العربي.
في تاريخنا الحديث عمل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في اختزال دوري المثقف والحاكم في شخصيته، فأصدر روايات وكتباً، وكان من أثارها أنه بدأ يؤمن أنه المثقف الأوحد في البلاد، وأنه العقل الأكثر تفوقاً، فتعرض المثقفون إلى محن لا يمكن حصرها في هذا المقال، وكانت النهاية انهيار المجتمع العراقي.
كان المثال الآخر الزعيم الليبي معمر القذافي، والذي مارس دوره كحاكم استبدادي من خلال لعب دور المثقف الذي يصدر التشريعات والكتب والروايات، فتحول المثقفون في تلك الفترة إلى أتباع في حضرة المثقف المتفرد، وبالتالي حجب النفاق عقل المثقف الحر من الانطلاق، فكانت الكارثة التي أودت بالمجتمع الليبي إلى ما وصل إليه.
ولعل المثال الأشهر في الزمن العربي الماضي كان جمال عبدالناصر، والذي تحولت رؤيته السياسية إلى طرح ثقافي لا يقبل الاختلاف معه، ويعمل على فرضه على الجميع بقوة السلاح، فكان الضحية سجن الآلاف من المثقفين، وكانت النهاية حرب الساعات الست، بعد أن وصل إلى قناعة أنه الحاكم والعقل المفكر المتفرد.
وقد تطول قائمة الرئيس المثقف الذي أذاق شعبه الويلات، ويأتي في مقدمتهم في القائمة خارج الزمن العربي جوزيف ستالين وأدولف هتلر وموسوليني، والذين قادتهم فكرة النبوغ الثقافي، أو أنهم يمثلون العقل المتفوق والمتصرف في إيصال بلادهم إلى الجحيم.
لهذا السبب يعيض الحاكم في أزمة إذا قدم نفسه على أنه المثقف الأكبر، لأنه يمثل السلطة العليا، ولأنه بذلك سيجعل من سقف أفكاره الحدود الأعلى للعقول، وسيعمل على فرضها، وسيأخذ البلاد إلى اتجاهات غير محمودة، وذلك لأن الثقافة حالة اجتماعية غير سلطوية، ولابد أن تتمتع بحرية التفكير، ولأن الأفكار العظيمة لا يمكن أن تخرج في حالة من الكبت والحجر على العقول، أو في حالة وجود عقل أكبر.
كانت الصالونات الثقافية الفكرة التي تم ابتداعها لربط حلقة من التواصل بين السلطة والمثقف، وتنتشر في المجتمعات الشرقية، لكنها أيضاً كانت حلقة الوصل التي أوصلت فكرة ظهور الزعيم المثقف في شخصية الحاكم، وكانت تأثيراتها في غاية السلبية على حالة الثقافة العامة في المجتمعات الشرقية، وكانت النتيجة أن تحولت الثقافة إلى سجان وحارس أمن على العقول.. والله المستعان.