عمر إبراهيم الرشيد
ثمة أخبار تبعث على الفرح والفخر معا عن بعض مبتعثي الوطن الدراسين في الخارج شبابا وفتيات، في مختاف التخصصات، معطين صورة حضارية عن وطنهم لمن ليس لديه تصور عنه أو من وصلته الصورة منقوصة أو مشوهة. فالتعميم طبيعة تغلب على معظم فئات البشر، لذا فهؤلاء الطلبة والطالبات هم أفضل سفراء للدبلوماسية الشعبية الذين يكملون وبجدارة متعاظمة عمل الدبلوماسية الرسمية.
ولعل آخر أخبار أمثلة التفوق للمبتعثين هو تكريم الرئيس الأمريكي باراك أوباما للمبتعثة سمر بنت حرب الهرفي بميدالية مرفوقة بخطاب ثناء على تميزها الأكاديمي من بين ستة وأربعين طالب دكتوراة في جامعة أركوسي في شيكاغو، وخدماتها للمجتمع الأمريكي خاصة الأقليات والمهاجرين.
حقيقة مثل هذه الإنجازات تؤثر بشكل إيجابي كبير خاصة وأن الصورة التي يروج لها بعض الإعلام الخارجي عن المملكة فيها من التحامل والكيد الشيء الكثير، برغم أنه ليس هناك مجتمع أو دولة بدون مثالب وسلبيات وعلل على مر التاريخ البشري، إنما الطامة هي في التركيز على العلل والسلبيات وكأنها حكر علينا، والتعامي عن المحاسن والإنجازات.
الدكتورة سمر اقتفت آثار والدها الدكتور حرب الهرفي أحد الكفاءات والكوادر الطبية السعودية التي يزخر بها الوطن، ولنتوقف عند تخصصها وهو علم النفس الإكلينيكي أو الطبي الذي يعنى بالأمراض النفسية وعلاجها. وللتذكير فإن علم النفس يتفرع إلى عدة تخصصات دقيقة، فهناك علم النفس التربوي وعلم النفس الرياضي والعسكري والصناعي وغيره من أفرع هذا العلم الحيوي. وهناك تصور لدى البعض بأن هذا العلم نظري وطارئ بل وثانوي، يلجأ إليه بعض الطلاب حين لايجدون لهم مقاعد في التخصصات الأخرى التي يرغبونها، وإن كان هذا يقع في بعض الجامعات فهذا مرده إلى خلل في التخطيط والإدارة وينطبق على كثير من التخصصات وليس مقصوراً على علم النفس. والصورة النمطية التي أشاعتها بعض الأفلام في السينما أو التلفزيون سابقاً عن الطبيب أو الإخصائي النفسي مردها الجهل بحقيقة هذا العلم.
كانت كليات الطب الغربية تنتقي الطلاب المتفوقين المتقدمين إليها لدراسة الطب البشري، ومن هم أقل في معدلاتهم يتم تحويلهم إلى قسم الطب النفسي برغم أنه فرع من الطب العام إلا أنه أكثرها تركيزاً على الجانب النظري. بعض أولئك الطلاب يكونون محبطين نفسياً نتيجة تحويلهم إلى قسم الطب النفسي دون رغبتهم، وهكذا تولد لدى قطاع من الجمهور أن الدارس للطب النفسي والممارس له قد يكون لديه نوع من عدم الاتزان النفسي، وبالنظر إلى طبيعة علم النفس والقسم النظري منه تحديداً وتعامل الأطباء والاخصائيين النفسيين مع مرضاهم ومراجعيهم، كل ذلك، حسب تلك الأفكار المسبقة والنمطية لدى البعض كما قلت والتي مردها قلة الوعي بهذا العلم كفرع من الطب، أدت إلى هذه الصور المغلوطة عن علم النفس والطب النفسي خصوصاً في السابق، إنما ولحسن الحظ ومع زيادة الوعي تبين لدى الكثيرين أهمية ومكانة هذا الفرع الطبي وهذا العلم.
وغير خافٍ إن المجتمع السعودي مر بمراحل من النمو والتغير سريع الوتيرة وأحيانا دون تدرج خاصة بعد أزمة الخليج، وهبوط ثورة الاتصالات والتواصل والإنترنت وما صاحبها من تغيرات لاتزال تجري، إضافة إلى الطفرة التنموية الثانية التي انطلقت مطلع الألفية الثانية (الأولى انطلقت عام 1975) وما تحدثه من حركة بناء وتوسع عملاقة يصحبها عادة عدم استقرار اجتماعي وظواهر وأنماط سلوكية واستهلاكية طارئة أو ضارة أحياناً تغذيها ثورة الاتصال والتواصل كما قلت.. كل ذلك يتطلب وجود كوادر وطنية مؤهلة في الطب النفسي وعلم النفس بكل فروعه، وإن كان البعض مازال يرى في هذا العلم أنه نبتة غربية لا يلائم ثقافتنا أو ربما لا يتسق في جانبه النظري على الأقل مع الثقافة الإسلامية، فلعلنا نرجع إلى قوله عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}. والقرآن الكريم يزخر بكنوز ومنها ما يتعلق بالنفس وعلومها وطبائعها ما لو وقف عليه علماء النفس الغربيون قبل الشرقيين لحاروا من إعجازه، وما سورة يوسف وما فيها من المواقف النفسية والسلوكيات البشرية والحالات الذهنية إلا مثال بائن كالبدر ليلة تمامه.
بقي أن أذكر بأن ما نشهده من جرائم على اختلاف درجاتها، أو إرهاب، أو ظواهر أو سلوكيات لم تكن في مجتمعاتنا من قبل، كل هذه وغيرها بحاجة كما قلت إلى متخصصين في هذا العلم من أبنائنا وبناتنا بخلفيتهم الاسلامية والشرقية لعلاج مثل هذه النوازل والحالات والأمراض.. شكراً لسمر الهرفي ووالدها ولكل مجتهد مخلص لوطنه ومجتمعه والحمد لله من قبل ومن بعد.