عمر إبراهيم الرشيد
ارنست همنجواي من أغزر الروائيين العالميين فكراً وثقافة، ومن أوسعهم انتشاراً، بحكم أن أدبه الروائي إنساني النزعة يسبر أغوار النفس تحليلاً لسلوكها وأنماطها في كل المجتمعات. طاف بدول ومجتمعات عدة من أفريقيا إلى أوروبا مروراً بكوبا، ناسجاً رواياته من أجواء تلك المجتمعات ومناخاتها النفسية وخلفياتها التاريخية والاجتماعية.
ومن المدن التي فتن بها باريس، شاغلة الدنيا خاصة هذه الأيام بعد أحداثها الأخيرة. أحب همنجواي باريس وعاش فيها في العشرينات من القرن المنصرم، وقد أصدرت دار غاليمار كتابه وهو مذكراته عن باريس، باللغة الفرنسية عام 1964م بعنوان: (باريس في عيد). من المثير للتأمل على هامش أحداث باريس قيام كثير من الباريسيين بإحضار نسخهم من كتاب الروائي الأمريكي من مكتباتهم الخاصة أو بشرائهم نسخة من المكتبات التجارية، كنوع من مقاومة الاعتداء بطريقة مغايرة وخاصة أو باريسية - إن صح التعبير - ووضع نسخهم مع باقات الورود في أماكن الاعتداءات!. الكتاب أيضاً احتل المرتبة 17 ضمن الكتب الأكثر مبيعاً على موقع (أمازون)، كما أشارت دار (فوليو) التي أعادت طبع الكتاب بدورها أن الطلبات على الكتاب بدأت بعشر نسخ في اليوم ثم تصاعدت إلى خمسمئة نسخة، والدار بصدد طباعة خمسة عشر ألف نسخة بعد أن كانت تطبع ثمانية آلاف نسخة في السنة، وذلك لتلبية الطلبات التي تصاعدت بعد الأحداث. ومما لفت النظر أكثر للكتاب وأعاد الوهج إليه التقارير التي قدمها التلفزيون الفرنسي عن الكتاب ومؤلفه ارنست همنجواي إضافة إلى وسائل التواصل عبر الشبكة العنكبوتية. فصار اقتناء الكتاب وقراءته ومناظر الذين يحملونه في ساحات باريس وأماكن الاعتداء وفي مقاهيها فعلاً يعبر عن رد الباريسيين على المتطرفين والإرهابيين، وأن باريس لن توقف تظاهراتها و(أنوارها) الثقافية والفنية اليومية أو (أعيادها) حسب تعبير همنجواي.
برغم تغير الوسائل الثقافية والمعرفية والثورة التقنية التي غيرت أنماط القراءة وضايقت الكتاب الورقي محتلة الحيز الأكبر ربما الذي كان يحتله من وقت عشاق الكلمة والمعرفة، إلا أن الإحصاءات تؤكد أن الكتاب ما زال يحظى بمكانته الحضارية خاصة في أمريكا وأوروبا، وما هذا الحدث الذي تناولناه هنا إلا مثال ناصع. فلم يكتف الفرنسيون بالإشارة إلى الكتاب عرضاً في وسائل التواصل والإعلام الأخرى بل عمدوا إلى اقتناء النسخة الورقية، فلا أدل على أن الكتاب لا يزال يحتل الوجدان المعرفي لديهم. أما في وطننا العربي فالمقولة التي يرددها كارهو القراءة ومن يتكاسلون عنها من أن عصر الكتاب قد توارى أو انتهى، فهي من باب تبرير التقاعس ومواراة الكسل عن توسيع الأفق وصقل التفكير وزيادة المعرفة. ومعروف أن ما يقرأه طفل أمريكي يعادل ما يقرأه مئتان وخمسة وستون طفلاً عربياً، والأسباب يطول شرحها من أزمات سياسية وتنموية واقتصادية أسهمت في تنامي الأمية وتراجع التعليم أساساً للنهضة. إلا أننا لا يجب أن نتناسى أو ننسى أن الكتاب عاد يحظى بمكانته بعض الشيء لدينا من خلال معارض الكتب في عواصم عربية عدة بإقبال جماهيري جيد خاصة معرض الرياض وكذلك القاهرة، إضافة إلى مساهمة مواقع التواصل الاجتماعي العربية والسعودية بنشر وعرض الكتب والاحتفاء بها، وهذا مؤشر باعث على الأمل. بقي أن نقول هذه شموع وورود ونسخ من كتاب همنجواي (باريس في عيد) مشكلة لوحة غاية في الجمال والرد السلمي الهادئ المتحضر من قبل الشعب الفرنسي خصوصاً، فمن لضحايا القدس والشام والعراق، وضحايا الحوثيين في اليمن، الذين يقتلون بالمئات يومياً، والله المستعان.