أحمد محمد الطويان
غادر هذه الدنيا الأمير الغالي بندر الفيصل، لم أدخل بيته، ولم أحظ بمعرفته الشخصية، ولم أعمل معه.. لماذا أكتب؟.. وعن ماذا سأكتب؟.. وكيف سأبدأ عارفاً وملماً وقادراً على وصف نقاط في شخصيته؟.. أو كيف سأعبر عن ألم فقده؟..
ولماذا أتألم؟..
الطفل لا ينسى، وتكبر الذكريات مع مرور الزمن، وبمراجعتها وتأملها نستوعبها بنضج الكبار.. أتذكر بندر الفيصل ببزته
العسكرية الزرقاء وهو يدخل إلى مدرستنا التي تشارك مع أخيه الأمير الراحل سعود الفيصل في حلم تأسيسها ورعاها إلى جانبه مع إخوانهما أبناء الملك فيصل.. كان يمر بين الفصول ويسأل الطلاب والمعلمين، ويهتم بتفاصيل دقيقة تتعلق بنا.
كنت أثناء الدراسة المتوسطة أميل إلى النشاط الإعلامي والصحافي، وتوليت إدارة تحرير مجلة المدرسة برفقة زميلي وأخي ناصر بن عبدالوهاب العقيل، وكنا نشارك في كل مناشط المدرسة -ذات الدوام الطويل- وكانت تسند إلينا مهام متعددة في الاحتفالات والنشاطات، ولأننا كنا نستحوذ على الصحافة المدرسية، حصلنا على شيء من الشهرة في مجتمع المدرسة الذي كان الأمير بندر الفيصل جزءاً أصيلاً منه، بصفته الأب الراعي لأبنائه ولهذا المشروع التعليمي الطموح، واكسبتنا الصحافة المدرسية فرصة الاقتراب من الأب بندر، وكنا نحضر مقابلاته بالضيوف الأجانب واجتماعاته الداخلية، وكنا نستمع إلى نصائحه وتوجيهاته ونستمتع برحابة صدره وتجاوبه مع تساؤلاتنا وطلباتنا التي تندرج تحت -الشغب الصحفي الطفولي-.
أذكر ذات يوم تقدمت إليه بكل شجاعة وطلبت منه أن يتوسط لي لأحظى بمقابلة مع الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- بصفته وزيراً للخارجية ورئيساً لمجلس إدارة المدرسة، أجابني الأمير بندر وهو نائب الرئيس قائلاً: هذه فكرة ممتازة، وستكون ممتازة أكثر لو تقدمت بنفسك للأمير سعود وطلبت المقابلة.. وحضر معنا الأمير بندر وتقدمت نحو الأمير وطلبت إجراء الحوار، ولكنه غلبني بديبلوماسية ليحمي وقته الضيق من الطفل الصحفي.. بعدها قال لي المرحوم الأمير بندر: كيف ستصبح صحافياً وأنت لا تتجرأ على اقتحام الأسوار والشخصيات وتبحث عن واسطة.. أجبته بأن أقصى ما أوصلتني إليه شجاعتي أن أطلب منك هذه «الواسطة» لأنك أنت من يقف معنا ويشجعنا دائماً.
علمنا الأمير بندر أن نثق بأنفسنا، وأن نبدع وأن نقدم لمجتمعنا الأفضل، كان يحلم بلا حدود ويطمح لغد أفضل، لا أنسى لقاء جمعنا به قبل تخرجنا من الثانوية بطلب من سموه، وكنا ثلاثة طلاب نمثل مجلس طلبة المدارس الأخ ناصر والأخ محمد المنديل وكاتب هذه السطور، هذا اللقاء تميز بالدفء وحضره الأمير تركي الفيصل، وتحدث فيه الأمير بندر بإسهاب عن الملك فيصل -رحمه الله- والمواقف الطريفة والتي تتعلق بأسلوب الملك العظيم في التربية والتوجيه، وأتذكر أني قلت له لماذا يا سمو الأمير لا تدون هذه المواقف في كتاب يعكس الجوانب الإنسانية للملك، أجابني: ليس كل من لديه معلومة أو معرفة بشيء يمكنه أن يكتب كتاباً، إما تكتب بمعايير الكتابة التي تهم الباحث والقارئ أو لا تكتب أبداً، وأنا طيار ولست بكاتب.. البركة فيكم.
دفعنا في تلك الجلسة الطويلة الودية إلى تحقيق طموحنا، وأن لا نقف عند حد معين، وأن لا نتكلف ونكون أكثر بساطة لنسعد بحياتنا. توجيهاته لم تفارقني في أي مرحلة من المراحل، وتعطيني دفعة إلى الأمام.. الأطفال والمراهقون تبقى في دواخلهم ذكريات تتحول إلى أفكار، وكم هو محظوظ من كانت ذكرياته مرتبطة برجال كبار في علمهم وأخلاقهم ورؤيتهم وعطائهم لمجتمعهم.
بندر الفيصل الذي تدرج في خدمته العسكرية في القوات الجوية كطيار حربي إلى أن وصل إلى رتبة فريق وآخر منصب تقلده كان كبير المستشارين العسكريين لوزير الدفاع لم يكن تقليدياً في أفكاره، وتلمح في كلماته الصدق والجدية الممزوجة بالتشبيهات والتعليقات التي تعكس شخصية مرحة ومحبة للحياة.. بلا شك خسرنا أميراً كبيراً بتاريخه وثفافته وعطائه.. وعزائي لمقام سيدي خادم الحرمين الشريفين ولسيدي ولي العهد وسيدي ولي ولي العهد ولكافة الأسرة الكريمة، ولإخوانه وأخواته أبناء وبنات الملك فيصل ولابنه الأمير سلطان ولابنته الأميرة هناء ولحرمه الأميرة بسمة بنت ماجد.