محمد آل الشيخ
من خلال حواراتي ونقاشاتي مع بعض الزملاء، وبعضهم حاصلين على أعلى الدرجات العلمية من جامعات معروفة ومشهورة وليس من جامعات (هلكوني) وشهاداتها الوهمية المزورة، وصلت إلى قناعة مؤداها أن (المكابرة)، وعدم الخضوع للمنطق والعقلانية والموضوعية، سمة من سمات المثقف العربي إلا ما ندر. وقد لاحظت ان أغلب هؤلاء المثقفين وبالذات ممن تجاوزوا سن الخمسين, قد تأثروا تأثرا عميقا بفكر اليسار العربي الذي كان شائعا في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم, وهو ما يجسده بوضوح الكاتب الأمريكي من اصل فلسطيني «إدوارد سعيد» وبالذات في كتابه (الاستشراق) الذي يلقي فيه بمسؤولية تخلف العرب على الغرب وعلى المستشرقين منهم بالذات وبالمناسبة فإن هذا الموقف الفكري اليساري هو الذي ورثه فيما بعد المتأسلمون المسيسون, دون أن يعوا.
ومن يقرأ تاريخ المجتمعات الغربية الرائدة اليوم سيجد أن تخلصهم من ثقافة العصور الوسطى ودخولهم إلى عصور التنوير الذي قادهم إلى التفوق الحضاري في كل المجالات العلمية والنظرية، كان من أهم أسبابه أنهم واجهوا تراثهم الموروث بالنقد العقلي الموضوعي، وسنّوا سننا عقلية لقبول أسس تعدد الآراء والاختلافات ولم يتركوها مطلقة لا حدود ولا قيود لها، ومن ثم قادوا بهذه الآلية العقلانية المُحكمة شعوبهم إلى اعتبار أن المنطق والمعايير العلمية، في قضاياهم الدنيوية، هي (الحَكم) النهائي لما يقبلون وما يرفضون. ولو أنهم بدل المواجهة تلمسوا لثفافتهم تلك الأعذار، وأحالوها إلى الظروف، ورموا بمسؤليتها على الآخر المنتصر حضاريا، كما يفعل بعض مثقفينا أو على شماعة (المؤامرة) كما يفعل البعض الاخر، لكانوا حتى الآن وحوشا غزاة قتلة مثلما كانوا وحوشا وبرابرة حينما كانت مسيطرة على أذهانهم ثقافة (الحروب الصليبية)، وكذلك (الحروب المذهبية) فيما بينهم قُبيل عصر النور الذي انبثق أول ما انبثق في أوروبا، ثم عَمًّت الأرض كلها أنواره بعد ذلك.
والسؤال الذي دائما ما يدور في ذهني ولا أجد له إجابة شافية كافية ومقنعة: هل (المكابرة) وأخواتها من ذرائع و تبريرات وتهربات من مواجهة الواقع على حقيقته، هو نمط من أنماط الهوية العربية الموروثة التي يتشربها الإنسان العربي مع حليب أمه، ثم يربيه عليها والداه ومجتمعه منذ مدارج صباه، فلا يستطيع منها فكاكا، حتى ولو تعلم في أكبر الجامعات، وعاش في أرقى المجتمعات المتحضرة مدنيا؟
أعترف لكم أنني لا أملك الإجابة على سؤال كهذا، بقدر ما يمتلئ ذهني بالأسئلة التي ربما أجد لبعضها أجوبة، لكنها تبقى أجوبة ظنية وليست يقينية، ويظل البعض منها دونما إجابة.
وحتى لو افترضنا أن المكابرة والمغالطة سمة من سمات هوية الإنسان العربي الموروثة، فهل نحن من نصنع الهوية أم الهوية هي التي تصنعنا؟.. بمعنى أخر: هل نحن أرقاء وعبيد للهوية تُكبلنا بأغلالها، أم أن الهوية هي ملكنا ونحن من نصنعها؟ .. أسئلة جدلية ستبقى دونما إجابة، ومحل تجاذبات بين هذا وذاك، ما لم نغير نهجنا الفلسفي في تناولنا لقضايانا، فنُحيّد عواطفنا عندما نتناول ثقافتنا الموروثة، ونجعل العقل وما توصل له الإنسان من حقائق ومعارف علمية، معيارا للمقبول والمرفوض.
ومعضلتنا الفكرية الثانية، والتي في تقديري لا تقل تأثيراتها عن (عاهة) المكابرة والمغالطة، أننا نقرأ تاريخنا الماضي، خاصة الجزء المجيد منه، بطريقة غير علمية، فنقرأ عصرنا بمنطق التاريخ ونأبى وبشراسة، تصل أحيانا إلى مرحلة (التكفير) بأن نخضع قراءتنا للتاريخ بمنطق العصر وآلياته النقدية التي وصلت لها البشرية، وهذا ما جعلنا في النتيجة نقع في شراك أعظم طامة حلت بنا في الوقت الحاضر، وهي (الإرهاب)، الذي تمثله (داعش) وأخواتها خير تمثيل، فالدواعش في استدلالتهم يستحضرون التاريخ، ومقولات فقهائه، وحوادث بعينها، فينزعونها من أسبابها وسياقاتها وظروفها الزمنية، ثم يسقطونها على عصرنا، ويعتبرون هذه الشواهد التاريخية دليلا كافيا على سلامة ممارساتهم دينيا، وهو ما بدأ يكتشفه كثيرون، فالتاريخ الذي يعيد نفسه - كما يقولون - هو التاريخ الذي تتوفر له أولا الأسباب والبواعث المنطقية لأن تأتي النتائج مُتسقة مع أسبابه وبواعثه، وإلا فأنت عندما تترك الأسباب، ولا تكترث بها، فإن النتيجة المنطقية والمتوقعة ستكون حتما (داعش وأخواتها).
هل وضحت وجهة نظري بما فيه الكفاية؟.. أرجو ذلك.
إلى اللقاء.