إبراهيم عبدالله العمار
أستمتع بقراءة تواريخ العظماء. أجد في حياتهم الهِمَّة والمعالي. لكن هناك قراءة أجد فيها متعة أكبر، وهي حياة الأرذال، الذين وصلوا لأعمق دركات الانحطاط! أجد في حياتهم العبرة، وأرى من تجربتهم الحقيقية أضرار ما حرّمه ديننا كالخمر والانحلال الأخلاقي. هذه فيها فائدة لا تقل عن سِيَر العظماء، وربما هي أنفع.
في مقالة سابقة وضعتُ قطفات من مذكرات أحد العازفين الأمريكان في فرقة موسيقى روك، ورأينا نماذج مدهشة من انحطاط أهل الفن الذين تتركز حياتهم على الخمر والفواحش والمخدرات، وهناك كتاب آخر لم أستطع التوقف عن قراءته لأحد الفنانين واسمه داف مكيغن، وهو يعزف في إحدى أشهر فرق الروك باسم «غنز آند روزز» (مسدسات وورود).
هذا الموسيقار عُرِف بالإفراط في الخمر حتى ضُرِبَ به المثل، لدرجة أن المسلسل الشهير «سيمبسونز» سمّى نوعاً من البيرة «داف» على اسمه! الخمر والمخدرات أشياء لا يستغني عنها الفنانون، وقد قَتَلَت الكثير منهم في ريعان شبابهم.
يقول داف إنه استيقظ صباح يوم بآلام بطن حادة. لم يكن الألم جديداً عليه، بل بسبب طبيعة حياته الخمرية المخدراتية كان كثيراً ما تمر به آلام متنوعة، لكن هذا الألم كان مختلفاً.. كان شديداً.. كأن شخصاً طعنه بسكين وحرّكها داخل جوفه. من شدة الوجع لم يقدر أن يتحرك حتى لِطرف السرير ليكلم الإسعاف! وأقصى ما استطاع أن يئن أنيناً خافتاً.
ظل طريح الفراش يجمّده الألم، في بيتٍ صامت لا يشاركه فيه أحد. لا يدري كم مر من وقت وهو مشلول، لكن شعر كأنها أبدية. لحسن حظه سمع صوت صديقه يدخل البيت ويناديه من أسفل، حاول أن ينطق «أنا في الطابق الأعلى» لكن الألم جعله كالصنم. صعد صديقه باحثاً ووجده هكذا فقال: رباه، لقد حَصَلَتْ! كان معارفه يعلمون أن الخمر ستحطم جسمه، لكن أول مرة يراه أحدهم هكذا. سحبه وأنزله بصعوبة للسيارة، والألم يزيد. أخذه للطبيب الذي أعطاه إبرة مسكنة، لكن لم يَسكن الألم. إبرة أخرى، لا شيء. إبرة ثالثة! لا يخف الألم. بدأ يذعر وألمه ينتشر، وضعفت روحه واسوَدَّ وجوده. هرعوا به للطوارئ الذين سألوه عن اسمه ولم يُجب إلا أنيناً. ضربوه إبرة مورفين ولم يكن لها تأثير قوي. قال له المريض بجانبه في الطوارئ: لقد كُسر عمودي الفقري لكن أراك وأشعر أني محظوظ بالمقارنة! بعد فحصه بأجهزة التصوير ظهر الوجوم على وجوه الأطباء.. لقد انفجر البنكرياس.
قبل أن ينفجر كان قد تضخّم بسبب الخمر حتى صار بحجم كرة القدم الأمريكية. لما بدأ بنكرياسه يتفتق أفرز مواد حارقة سالت على الأحشاء وأحرقتها كحروق النار (حروق الدرجة الثالثة، أقوى درجة). لا يوجد إلا أعضاء قليلة تتحمل هذه الإنزيمات، وهي داخل القناة الهضمية، أما الأعضاء خارج القناة فلا تتحمل تلك السوائل شديدة القوة، فتحترق الأنسجة. تخيل مثلاً أحماض المعدة النارية تسيل على وجهك لتصل إليك الفكرة!
يقول داف: «أعرف الآن إحساس المقاتلين على مر التاريخ الذين أصابتهم سيوف في المعارك مزقت أحشاءهم أو صُبَّ عليهم الزيت المغلي. يا لهم من مساكين. أعرف الآن ما شعروا بهط.
سمع الجراحَ يقول إن الحل أن يقطعوا أعلى البنكرياس ويخيطوه ثم سيحتاج آلة كآلة الغسيل الكلوي بقية حياته. استجمع كل طاقته وقوته.. وقال للجراح بصوت خافت: «اقتلني».
كانت أول مرة في حياته يتمنى الموت. الألم الصاعق سلب كل رغبته في الحياة. ظل على سرير الطوارئ.. يستجدي.. «أرجوك.. أرجوك.. اقتلني.. اقتلني.. اقتلني!».
لكن الجراح لم يفعل. واليوم داف يعيش حياةً سليمة، ترك الخمر ويمارس الرياضة ويأكل الطعام الصحي، وتركَ تجربته لنا عبرة.