إبراهيم عبدالله العمار
عروة بن الزبير بن العوام، زاهد ورع من علماء التابعين، ابن الزبير رضي الله عنه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، له قصة مشهورة منذ قرأتها في صغري وإلى الآن وأنا أتعجب منها، وهي أنه لما تقدمت به السن أصاب رِجله مرض، فقال الطبيب إنّ المرض لا علاج له إلا بقطع العضو المصاب وإلا انتشر المرض وقتله، فوافق عروة على العملية، وعرض الطبيب أن يسقيه خمراً ليفقد وعيه ويخفّ الألم فرفض رفضاً قاطعاً واستنكر ذلك قائلاً: «لا والله، ما كنت أظن أحدًا يشرب شرابًا أو يأكل شيئًا يُذهِب عقلَه. ولكن إن كنتم لا بُدَّ فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به». وكان إذا بدأ الصلاة غاب عن كل ما حوله فلم ينتبه لشيء، من شدة خشوعه، فكبّر وبدأ صلاته، حينها بدأ الأطباء يقطعون، فأتوا بالمنشار وأخذوا ينشرون من فوق الركبة وهو لا يتحرك، مستغرق في صلاته، ولما أتموا قطعها أتوا بالزيت المغلي وسكبوه على مكان الجرح فسقط مغشياً عليه، فاستفاق ومسح العرق من وجهه.
يا لها من قصة! رحمه الله، ما أصبره، وقصته تُذكّرنا بإحدى نعم الله العظيمة علينا اليوم، وهي نعمة التخدير الطبي، وهذه سلسلة من 8 أجزاء عن نِعَم مدهشة لدينا اليوم لم يكن الأسبقون – حتى الزعماء والأثرياء – يحلمون بها. اليوم من يضطر إلى عملية جراحية – سواءً في اليد أو القلب – فإنه يقدر أن يوضع تحت التخدير العام .. إبرة واحدة تُفقد الشخص وعيه تماماً فلا يشعر بالمباضع وأدوات الجراحة التي قد تعمل في جسده ساعات طوالاً أحياناً، ولا يتذكر إلا شيئين: الإبرة، ثم الاستفاقة بعد العملية. الزمن والألم الذي بينهما لم يسجّلهما المخ.
لو أنّ عروة شرب الخمر لما أزال هذا الألم تماماً، وإنما يخففه، وذلك من تأثير الكحول على الجهاز العصبي، والكحول من أقدم المخدرات التي عرفها البشر، واستُخدم سابقاً في العمليات الطبية المؤلمة، ولم يفِ هذا بمتطلبات التخدير، لذلك جرب البشر أنواعاً أقوى من المواد التي حاولوا بها إزالة الألم، ومن ذلك مخدر الأفيون والذي جرّبه السومريون قبل 5500 سنة وهم قوم سكنوا جنوب العراق. لكن مشكلة الأفيون أنه قوي، لذلك كان يلزم إتقان الجرعة، فإذا كانت خفيفة ضَعفَ تأثيرها، وإن كانت قوية قَتَلَت. أحد الفراعنة ظهر في ضرسه خرّاج اشتعل عليه ألماً ولم يستطع معه شيئاً، لا من ناحية الألم ولا من ناحية الجراحة، حتى مات بسببه، هذا وهو ملك زمانه ومكانه.
بعد فترة من التجربة وصل البشر لأن يجربوا أنواعاً من النباتات، مثل نباتات من عائلة الباذنجان في القرن الثالث عشر الميلادي في إيطاليا، وكانت هذه أكثر المخدرات الطبية ثباتاً واستمر الناس يستخدمونها مئات السنين، إلى أن أتت مخدرات طبية مثل غاز النيتروس والإيثر في القرن التاسع عشر ومن ثم المخدرات الآمِن والأقوى التي تستخدم اليوم، فالحمد لله على هذه النعمة التي لم يكن حتى ملوك الماضي يعرفونها.