د. محمد عبدالله العوين
بعد سقوط غرناطة آخر معقل للمسلمين في الأندلس 898هـ/ 1492م في أيدي القوط بدأ الملك فرناندو الثالث ملك أراجون وزوجته إيزابيلا ملكة قشتالة اللذان كوّنا باتحادهما مملكة إسبانيا حملة تطهير عرقي وديني بشعة؛ لاستئصال المسلمين بتهجيرهم ونفيهم إلى البر الإفريقي عن طريق البحر، فيلقى بحمولات السفن من أولئك المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً في عمق البحر، ولا يصل إلى طنجة أو جبل طارق إلا من كتبت له الحياة، وتعود السفن فارغة إلى ملقا الرابضة على البحر؛ لتحمل من جديد ضحايا التهجير إلى الموت أو الضياع في المنافي. أما من بقي من المسلمين، وبخاصة الأطفال دون العاشرة، والمهرة من الصناع والأطباء والمزارعين الذين سيفيدون مملكة إسبانيا النصرانية، فإنهم يرغمون على التنصر، ومن أخفى إسلامه منهم وظهر عليه تصرف يدل على أنه لم يتخل عن إسلامه فسيعرض حتماً لعذاب لا يطيقه بشر عن طريق محاكم التفتيش الإرهابية.
وما يحدث في سوريا اليوم ليس إلا إعادة مؤلمة لتلك القصة الإسلامية الدامية في أقصى الغرب الأوروبي، وكأننا لا نستوعب دروس التاريخ القاسية، ولا نفيد من دروسه وعبره، ولا نكف عن تكرار كثير من الأخطاء التي وقع فيها أجدادنا في مراحل تاريخية متعددة؛ فقد تمت قصة سقوط الأندلس على مراحل خلال مائتين وخمسين عاماً بعد هزيمة الموحدين في معركة العُقاب 609هـ/ 1212م، وتوالى بعدها سقوط أشبيلية وجيان وقرطبة وبلنسية وغيرها، ولم يبق من المدن الكبيرة المسلمة إلا غرناطة. وكان من أبرز أسباب السقوط استعانة إمارة إسلامية على إمارة أخرى منافسة بالعدو المشترك، حتى إذا قضى العدو على إحداهما أتبعها بأختها. وغلبة الأثرة وحب الذات والانشغال عن الاستعداد لمقاومة العدو المتربص بتدبير المكايد للغرماء وللمنافسين بين ملوك وأمراء الطوائف أو مع المرابطين أو الموحدين في البر المغربي خلف البحر.
تمت التصفية والتطهير والتنصير في الأندلس قديماً، وتتم الآن في سوريا أكبر عملية تطهير وإجلاء وتفريغ وتغيير هوية وتشتيت وتوزيع على منافي العالم باتفاق وتواطؤ دولي مع نظام بشار ومن خلفه إيران، وبمشاركة روسيا في الجريمة؛ لتكتمل أكبر عملية إحلال وإبدال في سوريا، وإعادة تكوين ديموغرافي جديد، تحل به طائفة تدور في الفلك الإيراني، وتنقرض بالقتل أو التهجير الطائفة الكبرى التي شكلت هوية سوريا السابقة على مدى تاريخها العربي الإسلامي الطويل، وهم السُّنة أصحاب الأرض الأصليون في دمشق وحماة وحلب وحمص ودير الزور وغيرها.
لقد وُضعت أهداف استراتيجية بعيدة المدى؛ ليكون تقسيم سوريا أو هيمنة حكم التشيع الفارسي أمراً قانونياً حين يصلون إلى تحقيق نسبة الأغلبية من السكان بتصفية السُّنة أو تهجيرهم، وإحلال أعراق أخرى، تنتمي إلى المحور الأيديولوجي الفارسي، أو تسير في ركابه من تركيا والعراق وإيران وأفغانستان وغيرها.
ومن أجل تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي جرى ما يأتي:
- ضرب السُّنة بعضهم ببعض بإحداث وتكوين تنظيم استخباراتي يرفع شعارات دينية سنية سلفية كذباً وزوراً، وتمثل في تنظيم «داعش» الإرهابي الذي كونته المخابرات الإيرانية السورية العراقية باتفاق ورؤية غربية لإحداث التقسيم والتفتيت في المنطقة، ولاستئصال السنة في سوريا والعراق عن طريق المذابح الجماعية بتعاضد وتبادل أدوار بين داعش والنظام السوري والحشد الشعبي، ولتقديم صورة مشوهة للعالم عن الإسلام السني المتوحش الذي يمارس أشد ألوان التعذيب والانتهاكات المقززة، بحيث يُفهم الإسلام على أنه «داعش» بكل انتهاكاتها وتوحشها؛ ما ينفر منه، ويجعله عرضة للتنقص وللازدراء وللكراهية، وربما الحملات العسكرية العالمية لإنقاذ الحضارة الحديثة والبشرية منه!
- تدمير وإبادة المدن السنية بالبراميل المتفجرة التي يلقيها النظام السوري على المدن والأحياء السنية حتى بدون وجود مقاتلين فيها، بل إن البراميل في الغالب تسقط على أسواق شعبية أو على طوابير الواقفين في المخابز والمطاحن.
- تهجير أكثر من 13 مليوناً إلى الدول المجاورة وأوروبا وغيرها دون عودة.
وللحديث بقية.