يوسف المحيميد
بعدما غادرت إيمان الجبرين مدينتها الرياض نحو مدينة صغيرة في بريطانيا لاستكمال دراستها الجامعية هناك، وكما يحدث في اختلاف الثقافات، كانت كل تصرفاتها غريبة بالنسبة لهذه المدينة الصغيرة، والإنجليز لا يحبون الغرباء، وفي كل مرة كانت إيمان تجيب على تساؤلاتهم، وتشرح لهم ثقافتها وتعليمات دينها، ولأنها فنانة أولاً، ولأنها تعبت من تكرار الإجابات، ومحاولات إقناعهم بأهمية الاختلاف، قررت أن تستلهم فنها البصري في حسم هذه المعاناة، وظلت تبحث عن شريكاتها في الألم والغربة، فقررت أن تبحث في أرشيف الوطن هناك، فعثرت بين أوراق ووثائق المستشرقين الذين زاروا الجزيرة العربية قبل أكثر من قرن، صوراً عن نساء في حائل، بينهم صورة لسيدة اسمها تركية، وهي بالفعل امرأة ذاقت الغربة مرتين، هكذا كتبت إيمان الجبرين: «تركية كانت المرأة الوحيدة، والأسوأ أنها ذاقت الغربة مرتين، مرة حين سُرقت في تركيا وهي طفلة - هكذا تقول القصة - وبيعت كجارية ساقتها أقدارها إلى حائل، لتبدأ حياتها الجديدة ويتغير اسمها الذي لم تعد تذكره، ومرة بعد موتها حين بقيت صورتها وحيدة في أرشيف مدينة نيوكاسل الباردة، لذا قررت الفنانة أن لا تترك تركية وحدها، فاصطحبتها معها في أماكنها المفضلة، من الآن وصاعداً مهما بدت إحداهما دخيلة ستجد الأخرى حتى تحين لحظة العودة إلى الوطن، فقط لن يكونوا غرباء».
أتساءل، وربما أتخيل ما إذا عادت إيمان إلى الوطن، هل ستشعر بالغربة من جديد؟ هل ستبكي تركية وهي تودعها؟ هل ستعود تركية من جديد إلى غربتها ووحدتها في أدراج أرشيف في مدينة باردة؟ أم أنها ستبقى حيَّة في ثلاثية لوحات إيمان الجبرين، التي فازت بجائزة في بينالي فلورنسا، في دورته العاشرة. كانت شخصية تركية هي الأساس والعنصر الرئيس في هذه اللوحات الثلاث، وهي: تركية على الشاطئ، تركية بجوار الشبَّاك، وتركية في نورث لينز.
لقد قدمت الفنانة الدعوة لهذه السيدة الغريبة «تركية» كي تزور الأماكن المفضلة لديها، في مدينة نيوكاسل، جذبتها من كمِّها من أرشيف الصور، وأزاحت عنها بيوت الطين في حائل وشوارعها، ووضعتها معها في هذه المدينة الإنجليزية، كي تؤنس إحداهما الأخرى، وتبعد الغربة والوحشة عنها، رغم أنهما من زمنين مختلفين تماماً، لكن الغربة واحدة لا تتغير، التي عانت منها تركية في حائل، والتي تعاني منها إيمان في نيوكاسل!
ما أجمل الفكرة، وما أصدقها، تلك التي تنتمي للفن والإبداع ما بعد الحداثي، تلك الفكرة التي زاوجت بين الواقع الحياتي السيري للشخصيتين، وبين مخيلة الفنان، فكان من الطبيعي أن تحصد جائزة في هذا البينالي، ولا يفوتني أن أشير للفنانة السعودية الأخرى، نورة المزروع التي فاز أيضاً عملها الفني في هذا البينالي، مما يعني أن برنامج الابتعاث له جوانب مشرقة ورائعة، قدمها السعوديون والسعوديات في مجالات مختلفة، وفي معظم الدول التي التحقوا بجامعاتها، فهنيئاً للوطن بهم.