د. خيرية السقاف
حين ينال خالد المالك رئيس تحرير الجزيرة جائزة «البحر الأبيض المتوسط العالمية» نظيراً لأسماء قيادات دول، وذوي مناصب سياسية مرموقة عالمياً، وهو رجل المهنة، الشغوف بحركيتها، أتونها، وحُفرها، خباياها، وقلقها، الذي يركض، وينكفئ لعقود على أنهار صحيفته «الجزيرة»، وقد جعلها في حسّه المدرسة، والجامعة، والبيت، وكرسي القيادة، والعربة، ومنصب الشمس، لها يبدأ من أجلها العد التصاعدي لبناء لبناتها، وتشييد سلّم كفاياتها، ويزيد في قائمة طموحاتها إلى أن تتحول من بوتقة صغيرة بدأت بطموح شاعرٍ تحلّق به قصيدته في زمن الصحافة الفردية، هاجسه وهو يؤسسها حلم التحليق بجناحيها، حتى غدت جزيرة « المالك خالداً» عقوداً أربعة وسمت باسمه، وارتهنت لنهجه، إذ عندما غاب عنها حيناً من الوقت استوحشت أنهارها، بتغربها عن نهجه، إلى أن عاد إليها متدفقاً كخلايا الدم في العروق، متوقداً ككرياته حول شقوقها، ووهنها، وإعيائها، نفضها من وحشتها، نفث فيها حماسه الكامن شوقاً إليها، حقنها بتطلُّعاته نحو نجاحها، وحميَّته المهنية لتفردها، لسطوعها، هدفه الأول الصعود بها لأعلى ما ينوف، وآخر طموحاته منها أن ينوف هو ذاتاً.. إذ من يجعل في ميدان الصحافة همّه صحيفته، يغرق في شؤونها، يتأخر عن مائدة أُسرته، ومنام صغاره، وطوارئه الشخصية ليكون عند هدير مطبعتها، ومنافذ خبرها، واستثناءات مطالبها، وفُجاءات ما حول قرائها النائمين، يتكلون عليها لتكون فطورهم، وقهوة صباحهم نبأ، وخبراً، وصورة، وحدثاً، هو من يجعل صحيفتهم بجهده في الفجر أول من يتلقّاهم بآخر ما في محيطهم وخارجه.. مثل هذا المهني هو صانع مفردات المهنة، المحترف في تقنين مسارها، المؤلف محتوى منهجها.. فعلها أبو بشار هذه المهنية المحترفة، وهذه النجاحات المتتالية بإرادته، حتى نافست «الجزيرة» في وهجها، ونجاحها، وتطورها المهني، والفني، والتقني، والبشري،وبمواكبة أحدث مستجدات ووسائل تطوير الصحيفة عالمياً، ما جعلها هذا الكيان الإعلامي الكبير الذي ينافس بمهنيته مجالات التدريب، والتأهيل، والتطوير، وتقنية الطباعة، والنشر الورقي، والإلكتروني، وتأهيل القياديين فيها، والتحرير بنوعي عناصره البشرية، ومسؤولياته المقنّنة، وبالتنظيم الداخلي لاستقبال المواد، والتعامل مع المراسلين، والكتّاب الأساسيين، والطارئين، والتوزيع، بوسائل حديثة سريعة، فائقة في الوعي بوعي المكلفين بها تحت إشرافه، وتوجيهه، وإدارته، يضيف إليها حسن خلقه في التعامل، والإدارة الذكية مع جدّيته، وعزمه،.. أضاف لمفهوم المهنة سعة المجالات المتعلّقة بالكلمة، والحرف فجعل للجزيرة منشورات، ومتابعات، ورصد لموضوعات، وشخوص ذات صبغة مناسبات، أو ذات هدف توثيق، أدبياً، وتأريخياً، وحدثياً.. ناهيك عن توجهها الأكاديمي في انتشار كراسي البحث ببناء علاقة وطيدة بالمؤسسات الجامعية العليا.
أعرف أنّ «خالد الملك» سيفاجأ بما أكتب عنه، غير أنّ زمناً طويلاً عرفته عن بصماته في «الجزيرة»، تابعت عطاءاته لها وأنا بعيدة أنتمي لغيرها، ثم وأنا واحدة من كتّابها الذين دعاني ذاته للكتابة فيها ويحرص، عاصرت تطور مهنة الصحافة في بلادنا منذ ما ينوف على عقود أربعة، فحصدت عنه هذا الذي قلت، ولا أحسب أنني أوفيت حقه.
أسعدني أن حصد بجدارة جائزة البحر الأبيض المتوسط العالمية، بعد عديد من الجوائز التي بعضها تمثل في الجزيرة ذاتها ثمرته التي رعاها وعني بها.
إن للخبرة مقامها وقوامها وكل المعارف والمكاسب والحصاد الفكري والمهني يقوم على الخبرة فهي أس النهضة وبوتقة النجاح.
وأتمنى أن يحصد مزيداً من جوائز البحور بعد صبره، وكفاحه، ودأبه، ومواكبته، وإصراره، ومنافسته الفاعلة، فتاريخه روي بخبرات هي أساس في علم المهنة، وكذلك الكفاح المثالي في الحياة.