د. حسن بن فهد الهويمل
كثيرون هم أولئك الذين سيعبرون العنوان إلى الصفحة المقابلة، لأنه عنوان لخاصة الخاصة، و الناس مغرمون بمقالات الإثارة، والنياحة، والتخويف. تراهم أبداً يتهافتون على الأقلام التي تنكأ الجراح، وتثير الزوابع.
وحق لهذا الصنف من الناس الوجلين أن يتهافت على هذا اللون من المقالات، التي تجلد الذات، وتخوف الناس، حتى من أنفسهم؟.
الناس ضجرون، محتقنون، خائفون. وبِودهَّم لو تُفْرَى لهم القضايا المستعصية فَرْيَ الأديم؟.
وبقدر ماتاه الفلاسفة في مفازات الغيبيات. وأضاعوا الجهد، والوقت، والمال في قيل، وقال، وكثرة السؤال، فالمغرمون بقضايا السياسة أشقى، وأضيع.
وكاتبٌ مثلي، ألقى بنفسه في أتون القضايا الملتهبة بطوعه، واختياره. وجرد قلمه للجهاد بالقول السديد، سعياً وراء المصلحة العامة، وحقناً للدماء، ووأد الفتن، والعودة من سوح القتال، إلى موائد المفاوضات، يود المراوحة بين الهديل، والهدير.
والمتحيز إلى جانب السلام، قد يكون في ساعةٍ مَّا مضطراً إلى الركون للراحة، وأخذ النفس من باب استراحة المحارب.
وإذ لا بُدَّ من إراقة الدماء، أو إراقة الأحبار بين يدي المشاكل المتشابكة، فإن القلم قد يؤدي من النتائج أفضل مما يؤديه السيف. ومنابر الخطابة قد تنهي المستعصي من المشاكل، أكثر مما تحسمه ساحات الوغي، فإن على المختصمين مراجعة حساباتهم، والركون إلى السلم.
ولما كانت قرآءآتي، ومتابعاتي للقنوات، ومواقع التواصل، تراوح بين متعلقات الوضع السياسي، ومجالات الفكر، والأدب، مما ليس له صلة بلغة الحرب، والسياسة، فإنني قد أهرب من لهيب الفتن، وأنغمس في روائح الفن، ولهو الأدباء، والمفكرين.
يدي في بعض الأحيان تمتد بعفوية تامة إلى أعقاب الكتب في رفوف مكتبتي، فأسحب كتاباً من هنا، وآخر من هناك.
وافتحه بطريقة عفوية، فأسلو، وألهو. ثم تجرني تلك المتابعة إلى رصد انطباعاتي، وقد تحيلني القراءة الاستعراضية إلى مراجع معينة، استكمل بها متطلبات القضية التي شدتني إليها تلك القراءة العفوية.
ما أكتبه لقرائي - إن كان ثمة قراء - وليد الصدفة. [أنيس منصور] عفا الله عنه، له نكهة خاصة في الكتابة. فهو قد انتقل من أعماق [الفلسفة الوجودية] إلى مسرح الكتابات الصحفية المتنوعة. وقد عيب عليه التفريط بمجال تخصصه، وزهده بالأجواء الأكاديمية الحافلة بجلائل الأعمال.
وهو حين خسر نفسه، وأضاعها في متاهات الإعلام، وطواحينه، أكسب المشاهد كلها بفيوض ثقافاته المتنوعة، والمتعددة. فمقالاته زاخرة بالثقافات، وليست مقالات إنشائية.
نستفيد أسلوبياً من [المنفلوطي] و[الرافعي] و[الزيات] بوصفهم من أصحاب الأساليب المتأنقة. أما [أنيس منصور] فمقالاته زاخرة بالمعارف من مختلف الثقافات. لأنه قارئ نهم، وصاحب ذاكرة قوية استحضارية، وله نزوعه الاستطرادي، الذي يكاد يفوق سلفه [الجاحظ].
في ساعات الضيق، والحرج يلوذ مثلي بهذا الصنف من الكتَّاب، فأجد فيهم البلاسم الشافية من منغصات الوضع العربي القلق، وكتابه التافهين، والمتسطحين، والمأجورين.
كان حظي من كتبه كتابه [عاشوا في حياتي] و[أنيس منصور] ممن يستطيعون تحويل العادي إلى استثنائي، يشدون به الانتباه، ويملؤون به الفراغ.
وحين فتحت الكتاب عشوائياً، كان على ماكتب عن [توفيق الحكيم]. وللحكيم في نفسي مكانة، منشؤها تفكيره العميق، ولغته الأصيلة، وفنه الرفيع، وتصوره الساخر للناس، ولنفسه. حتى أنه لِيْم على تبذله، وسخريته، وحضوره في المشاهد كلها مقروناً بـ[حماره]، و[عصاه]، و[بريهته].
فهو إلى حد كبير يشبه [منصور] في تبذله. و [الحكيم] في أسلوب حياته، وتعامله، وتصوره للحياة أمة وحده، تكاد لاتجد له من يشبهه من لداته، ومن المعجبين به.
نعرف سخرية [المازني]، وزهو [زكي مبارك]، وعنف [الرفعي]، وحدة [العقاد]، وبذاءة [عبدالرحمن بدوي]ّ. ولكنهم لايتوفرون على مواهب [الحكيم].فيما كتبه عنه [أنيس منصور] وهو أحد خلطائه، والقادرين على تفجير مواهبه، وكوامنه، مايدل على شكه، وتردده في تحديد مصادره في قراءة الغيب.
السلف الصالح يُفَوِّضون أمر الغيب إلى الوحي، المتمثل بالقرآن القطعي الثبوت، والمراوح بين قطيعة الدلالة، واحتماليتها.
والراسخون في العلم يؤمنون بمتشابهه، ومحكمه، كله من عند الله. أما ما سواهم فيراوحون بين الشك، والتأويل، فما استعصى على عقولهم لجؤوا فيه إلى التأويل، الذي يحيل الدلالات القطعية إلى احتمالية.
لا أريد الخوض في مجاهيل المذاهب الكلامية عند الفِرق الإسلامية، ولا في متاهات الفلاسفة اللاهوتيين، والماديين، ففي ذلك متاهات داخلها مفقود، وخارجها مولود، ولكنني أريد التماس ماعليه [توفيق الحكيم] فيما نقله عنه أحد خلطائه، ومشاركيه في رحلة الشك والضياع.
ولقد أشك في أمانة [أنيس منصور]، ولكن الشواهد تؤيد ما ذهب إليه في توصيف موقفه من القضايا الكبرى في الفكر الإسلامي.
قلت من قبل إن الدخول في عوالم المفكرين المعاصرين سياحة فكرية، ضررها أكبر من نفعها، ولكنها ممتعة، وضرورية لمثلي. وماكان بودي أن أجرَّ قدم الناجين من مزالقها.
وحين أهرب من لفحات الواقع السياسي، أجد نفسي كالصعلوك الشقي الذي:-
[طَافَ يَبْغِي نَجْوَةً ... مِنْ هَلاكٍ فَهَلَك]
ما سألتقطه من لمحات عن حياة الحكيم الفكرية، قد تشبه إلى حد كبير حيوات لداته كـ[العقاد] و[طه حسين] و[أحمد أمين] و[هيكل] المفكر، لا الصحفي المهرج اللجوج.
هذه الحيوات مضطربة بين أوهام الفلسفة، وحقائق العلم، ومعطيات الكتب المقدسة، التي دخلها التحريف، وخلط أوراقها التأويل.
فيما بقي القرآن الكريم محفوظاً بنصه، مخترقاً بالتأويل، أو التكذيب، أو الشك.
حتى لقد تمنى [البنيويون] و [التفكيكيون] على الخليفة الراشد [عثمان بن عفان] عدم إقدامه على جمع المصحف على لغة قريش، وإحراق ماسواه من المصاحف. وهي رغبة أسلوبية، ربما تتعلق باللغة، والبناء، ولكنها مع هذا مدحوضة، فالمناهج البنيوية، والتفكيكية لن تجد فيما حذف خيراً كثيراً. والقراءات القرآنية حفظت الاختلاف.
ما توصل إليه [أنيس منصور] عن حياة [الحكيم] يعد إضافة جديدة مخيفة، وممتعة. فـ[الحكيم] يأتي في سياق الفلاسفة الشكوكيين، الذين لايروي ظمأهم النص المقدس، وكأني بهم يودون طرح السؤال الصادم:- [أرني أنظر إليك]. وهذا السؤال يأتي في سياق التحذير من الأسئلة غير المشروعة، على شاكلة التعدي في الدعاء.
[منصور] وهو يقرأ طائفة من المفكرين، يرى أن لكل مفكر عُمْرين: عُمْر جسمي، وعمر نفسي.
فقد يبلغ العمر الجسمي الثمانين، ولكنه في العمر النفسي، يتوقف عند الأربعين. بمعنى أنه استنزف ماعنده في هذه السن، ولم يضف بعد الأربعين شيئاً.
وتلك حقيقة، ولكنها غير دقيقة، وكم من ناقد تحامل على مدروسيه، فأساء الظن بهم، حين قطع بتوقف عطائهم في وقت مبكر.
السؤال الملح: هل الحكيم صدى للفكر، والفن الأوربي، أم أنه الصوت الحاكي كما يقول [المتنبي]؟
في مسرح العبث، واللامعقول الذي جسده في [ياطالع الشجرة] و[الطعام لكل فم]، تجسيد مشوه للإفلاس الروحي في أورباء. وهنا لا أحد يستطيع الادعاء بأن [الحكيم] مستقل في رؤيته العبثية.
[منصور] ينفي أن يكون لـ[حكيم] نظرية بارزة المعالم، محددة الشروط ، والمحققات. ولكنه لايستبعد أن تكون نظريته سِرَّاً في أعماله.
في خريف العمالقة تبدت صفة واحدة في كل أديب، أو مفكر، فـ[الحكيم] فنان، و[طه حسين] مؤرخ، و[العقاد] ناقد. هكذا يقول [منصور] على طريقته الجازمة. الثلاثة فيما أرى يتبادلون المواقع، ولكن بمستويات متفاوتة.
[طه حسين] يرتبط بالتاريخ من حيث الرواية، فيما يرتبط به [العقاد] من حيث الدراية. فـ[العبقريات] للعقاد تختلف عن [الفتنة الكبرى] بجزءيها، وعن كتاب [الشيخان] لـ[طه حسين] و[منصور] حين يعطي هذه الومضات، لايكلف نفسه بمتطلبات البحث العلمي الدقيق.
[الحَكيم] في نظر [منصور] شكوكي موغل في الشك. و[المعري] ربما يكون كبيرهم الذي علمهم التساؤل المؤذي للمؤمنين. وعلى مسؤولية [منصور] فيما يرويه عن [الحكيم] قوله:-
[إنني لم أعرف ماهي الحكمة من هذا الوجود]
و[مامعنى هذه الخليقة]
و[كل ما أريده، ولآخر مرة هو أن أفهم معنى الخليقة] ، وهذه أسئلة صادمة لمشاعر المؤمن المصدق، المطمئن.
الأغرب من هذا أن [منصور] يعقب بقوله:-
[الأستاذ العقاد هو الآخر مشغول بمثل هذا المعنى].
ما أنقمه على [منصور] وكثير مما يقول مثار نقمة، وتساؤل، واشمئزاز. تلاعبه باليقينيات، وسخريته من الحقائق الغيبية. وتلك خليقة المتلوثين بـ[الوجودية] بشقيها: الإيماني، والإلحادي. وأعني به الإيمان على الطريقة الوجودية.
ما اكتشفته في هذا الحديث عن [الحكيم] تردي السرديات الروائية في العبث الروائي الغربي. وتلك إدانة لزمن الرواية الذي يبشر به الحداثيون.
بقي أن أقول
أن الفكر المعاصر لاينجو من دخن الفكر المادي الغربي. وكل المفكرين العرب الذين لم يؤصلوا لفكرهم، قبل الخوض في معترك الأقران معرضون للعثرات القاتلة، من حيث يعلمون، أو لا يعلمون، وقَدَر أمثالي يحكيه قول الشاعر:-
[إذا أنت لم تَشْربْ مِرَاراً على القَذَى
ظَمِئْت وأَيُّ الناسِ تَصْفَو مَشَاربُه]
ولم يبق أمام الوجلين إلا الدعاء المأثور:- [اللهم يامقلب القلوب، والأبصار، ثبت قلوبنا على دينك].