د. حسن بن فهد الهويمل
حين حطت بنا الطائرة في مطار [الملك عبدالله]. بجازان أَخَذَت التداعيات تنثال على الذاكرة، كماء منهمر.
المحفور فيها [تمثيلية] قدمها [أبناء جازان] على مسرح إحدى المدارس في [الطائف] حين كنا طلبة في [الدورة الصيفية] قبل خمسة عقود، ونيف.
كان الممثلون سُمْرَ الوجوه، نحاف الأجسام، خفيفي الحركة،يعتزون بعاداتهم، وتقاليدهم. ويمتلئون طموحاً، واستشرافاً للمستقبل.
لقد أثارت فضولنا تلك العادات، التي ماكنا نتخيلها، لولا دقتهم في تصويرها. وبخاصة [طريقة الختان] و[أساليب الزواج] و[الرقصات] و[الأهازيج] و[الأزياء].
ونحن إذ ذاك نجديون ملتزمون،لا نعرف إلا [التجارة، والصلاة]، كما يقول عنا [أمين الريحاني]. من تلك الأيام كانت صلاتي بجازان، وأهله تزداد وثوقاً، واتساعاً.
وحين كتبت مقالاً في مجلة [المنهل] قبل خمسين عاماً،تمنيت الحصول على ديوان [القلائد] للشاعرالجازاني [محمد بن علي السنوسي] رحمه الله، فأهداه لي الأستاذ [عبدالقدوس الأنصاري] لدراسته. فكتبت دراسة نقدية قاسية، متحاملة، لم ينشرها في [المنهل]، وإنما نشرها الأستاذ [عبدالفتاح أبو مدين] في جريدة [الرائد].
وقد أغضبت الشاعر، والأنصاري معاً، وسعيت جهدي فيما بعد لإرضاء الطرفين، فكان أن خَفَّت سَوْرة الغضب، وقويت العلاقة، واستمر التواصل.
وبعد إنشاء الأندية الأدبية، تعددت قنوات الاتصال، وتعرفت على أدباء جازان، وشعرائه، وتكونت بيننا علاقات، تزداد قوة ومتانة مع الزمن.
فكان شعراءُ جازان وكتابُه وأدباؤه ونقاده يُدْعون إلى [القصيم]، لتنفيذ الفعاليات، والأماسي. وكنا نشاركهم مناشطهم. ومن ثم لم أكن غريباً، ولا بعيد العهد بتلك المنطقة الضاربة في عمق التاريخ.
ما أود الإشارة إليه غزارة الشعر، وكثرة الشعراء، وأصالة الأدب، وكثرة الأدباء. فعندما تُذْكر جازان يُذْكر عمالقة الشعر. ومكتبتي شاهد من الأهل، فحقل الإبداع السعودي حافل بعشرات الدواوين للأوائل، كـ [السنوسِي] و[العقيلي] والأواخر، الذين لا أحصيهم عدداً.
تلك بعض التداعيات. واليوم تبدو لنا [جازان] غيرها بالأمس، تعج بالحركة، وتبدو فيها نهضات متعددة، ومتنوعة.
جئنا إليها لنتفرس المعنويات، في أجواء [عاصفة الحزم]. ونستقرى مشاعر المواطنين، والمرابطين. ونقرئهم سلام الوارفين بظلال الأمن، والرخاء، والاستقرار.
وماكنا نتصور أن خوفنا لا مبرر له. فبعد أن توغلنا في الجبهة، وجُلْنا بأقدامنا بين المعدات المتربصة على مشارف الحدود، أدركنا أن الثغور، والثنيات في أيد أمنية، متفائلة، واثقة، ومؤمنة بعدالة قضيتها.
فالحرب لم تكن عدوانية. ولم تكن خياراً له بدائل، إنها الخيار الوحيد. فحبال الفجائع التي تلتف حول أعناقنا، لا يمزقها شر مُمَزَّق إلا أيدي أبنائنا الذين تم إعدادهم، وتوفير أحدث الأسلحة لهم. و:- [ما حَكَّ جلدك مثلُ ظُفْرِك].
في جازان تجري الأمور آمنة، مطمئنة. والمناسبات، والاحتفالات، وسائر الفعاليات تتم، وكأن شيئا لم يتغير. إنها الثقة بجنودنا البواسل المرابطين على خط النار، وكأنهم بين أهلهم، وذويهم. مشاعرُهم وحدها جوابٌ عندنا وخطاب.
حين أركب [الطائرة] أنظر إلى وجوه المضيفين، والمضيفات. فهي التي تعكس الأوضاع. وفي الجبهة أنظر إلى وجوه المرابطين. فهم الذي يجسدون المشاعر. ومن خالطهم زادت ثقته، وارتفعت معنوياته، وأدرك أنه في حصن حصين.
في جازان تحدثنا إلى كافة المسؤولين من[سمو الأمير]، إلى من دونه. واستمعنا إليهم.كانوا يتحدثون عن التنمية، وعما ظفرت به المنطقة من المشاريع في البنية التحتية، والبناء الفوقي. وكان الناس جميعاً يشيدون بأميرهم، وما يمارسه من أعمال ميدانية. وما يحافظ عليه من مواقع [استراتيجية] للصالح العام.
كل ما سمعت، وما رأيت أقل الواجبات. والفضل كله لله، الذي فجر لنا كنوز الأرض، ووضعها في أيدي أمينة،أحسنت استغلالها، وتوظيفها.
ومن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها. فللَّه الحمد، وله الشكر، وعليه المعوَّل.
لا نريد في غمرة سرورنا وإعجابنا أن ندع الحديث عما يجب أن يكون. [جازان] تتطلب المزيد من المشاريع، وهي بلا شك حاضرة [سمو الأمير]، ومن معه من كبار المسؤولين.
وهي لكي تلحق بركب التقدم، فإن من واجب أبنائها: المسؤولين، والمنتفعين أن يضعوا أيديهم بيد الأمير. لأنه الأقدر على وضع الأمور في نصابها.
[جازان] مقبلة على نهضات. ويقيني أن مسؤوليها يعون ذلك. فلقد تحدثت إلى طائفة منهم، وبخاصة [أمين المنطقة] و[مدير عام التعليم]، وأدركت ما يعتمل في نفوسهم من طموحات.
صحيح أننا في حالة حرب شرسة، ومصيرية. وفي حالة انهيار لأسعار النفط، ولكن ذلك سحابة صيف. وثقتنا وتفاؤلنا بعهد [سلمان] العزم، والحزم أكبر من أن نُرْتَهن للعوارض الزائلة.
لن يفوتني الحديث عن رفقاء الرحلة، والمهمة، وما تداولناه من هموم، وتطلعات، سمو الأمير تركي بن سعد. ومعالي الشيخ صالح بن حميد، ومعالي الدكتور عزام الدخيل وزير التعليم، ومعالي المستشار بالديوان الملكي الدكتور فهد السماري، وسعادة وكيل الوزارة الدكتور عبدالرحمن البراك، وآخرين من مختلف المناطق، ومختلف التخصصات، ممن أحيوا الفعاليات حول [ملتقى الوحدة الوطنية التعليمي] بكل اقتدار.
وهو المؤتمر الذي تنفذه [وزارة التعليم] ويقود فعالياته الزميل المتألق الدكتور محمد الحصيني، وكان لي شرف المشاركة فيه، للمرة الثالثة.
موضوع المؤتمر تفرضه الأحداث المفجعة. فشبابنا يُتَخَطَّفُ من بين أيدينا. وأجواؤنا الفكرية مخترقة عبر مختلف الوسائل. والتعليم أهم الجبهات لمواجهة هذا الاختراق. وحديثي مع [معالي الوزير] كشف لي عن وعي تام بمتطلبات المرحلة.
المؤكد أننا لسنا مصدر الإرهاب، كما يحلو للمسكونين بالضغائن، والأحقاد، ولكننا مستهدفون.
وأبناؤنا صيد ثمين لأعداء الإنسانية المتوحشين من دول، ومنظمات، نعرف منها، وننكر.
ومثل هذه المؤتمرات تُقَام للتوعية، والتحذير من دعاة السوء. وقطاع التربية الوطنية في [وزارة التعليم] خير من ينهض بهذه المهمة.
كانت [وزارة التعليم] تحيي في كل عام مؤتمراً. وواجبها أن تحيي هذه المؤتمرات في كل عام مرة، أو مرتين في مختلف المناطق، فنحن في حالة حرب فكرية، أشد ضراوة من الحرب العسكرية.
وشبابنا هو الهدف الرئيس لدعاة الفتنة. والمخدوعون منهم استجابوا لداعي الشيطان، واستمعوا له. ويكفي لإثبات انسياب الخدر الشيطاني أن البعض من شبابنا غدروا بالأقارب، قبل الأباعد. وتلك من الفواجع التي لا يجوز الإغماض فيها، ولا التراخي في مواجهتها بالقول، والفعل، والتخطيط.
لابد من التحرف،ومراجعة الأساليب، والمناهج في مختلف المرافق التعليمية، والدينية، والإعلامية، وبخاصة المؤسسات الثقافية كـ[مركز الحوار الوطني] و[الأندية الأدبية] و[الصالونات الأهلية] وسائر الجمعيات، والدارات، والمهرجانات.
ومؤتمر كهذا يخرج بتوصيات، ويطرح رؤى، ويعالج ظواهر، ويستقطب صفوة القائمين على مرافق التوعية، والتعليم، والإعلام، لمراجعة حساباتهم، وتقويم أعمالهم، والخروج بنتائج تصب في مصلحة الجبهة الداخلية، التي يراهن الأعداء على تفكيكها.
كانت ورقتي تحت عنوان [كيف نَقِي لحمتنا الوطنية من الاختراق].
ولم يبق إلا تفعيل التوصيات، ومواكبة الأحداث، والمتغيرات. و[وزارة التعليم] برجالاتها النابهين خير من ينهض بهذه المهمات، وبخاصة حين ضُمَّت إليها وزارة التعليم العالي.
لقد جئتكم من جازان بنبأ يقين.
إنها جبهتنا الجنوبية في أيد أمينة، وحديث الضباط، والأفراد المرابطين تبعث على الثقة،والاطمئنان. وقدراتنا العسكرية متفوقة، ومتطورة.
لقد سمعنا من أبطالنا الشيء الكثير، ولكن الذي وعيناه،وحفظناه :-
- إيمانهم العميق بقضاياهم.
- ثقتهم القوية بقدراتهم.
- اعتزازهم بقيادتهم.
- استعدادهم لمواجهة كل الاحتمالات.
ولأن لهم علينا حقوقاً كثيرة، لعل من أهمها :-
- حفظ الساقة.
- تماسك الجبهة الداخلية.
- الدعاء لهم بالنصر والتمكين.
- تنفيذ كل احتياجاتهم، ومطالبهم الأسرية.
فإن من واجبنا النهوض بها، لنكون بحق جبهة داخلية تحفظ الساقة.
وكيف لا نخلفهم في أهلهم، والدين الإسلامي يحث القاعدين على أن ينهضوا بهذه المهمة الجهادية.
لقد كان السؤال الملح الذي تلقيته بعد العودة عن جاهزيتنا للمواجهة، وأحب أن أطمئن الجميع أن بلادنا محفوظة بحفظ الله.
فوطن يحتضن المقدسات، والجسد الطاهر، ويلي أَمْرَه من يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويطهر بيت الله للطائفين، والعاكفين، والركع السجود، لا يمكن أن يكون في متناول يد المفسدين في الأرض و:-
[مَتَى تَجْمع القَلْبَ الذكيَّ، وصاماً: وأَنْفاً حَمِيًّا، تَجْتَنبك المظَالِمُ].
وقيادتنا، ورجالاتها، والمرابطون على الثغور، ونسورنا البواسل هم الجماعون لتلك المناقب.