د.عبدالله مناع
أثناء حضوري لـ(معرض الرياض الدولي للكتاب) في شهر مارس الماضي.. والذي لم أنقطع عن دوراته التسع السابقة: محاضراً في فعالياته أو مشاركاً في ندواته أو أمسياته..كـ (أمسية: الإصدار الأول) التي انفرد (المعرض) بها في دورته الرابعة عام 2009م.. فاجأني الصديق العزيز الدكتور ناصر الحجيلان بـ(مفاجأتين) كريمتين: (الأولى) بزيارتي في فندق (ماداريم)..
حيث تستضيف الوزارة مدعويها من الأدباء والكتاب والشعراء والناشرين العرب والسعوديين، وتقيم (إيوانها) المسائي الجميل الذي يشرف عليه الشاعر الفنان الأستاذ محمد عابس بحرفية وإتقان.. لتدارس هموم وأحلام أصحاب صناعة (الكتاب)، و(الثانية).. بـ(إخباري) بـ(موافقة) المقام السامي على (إقامة) معرض دولي للكتاب في جدة، لمدة خمس سنوات تحت التجربة.
وبقدر ما أسعدتني زيارته الحميمية.. بقدر ما امتلأ قلبي بهجة بالموافقة السامية على إقامة معرض دولي (ثان) للكتاب في المملكة بعد معرض الرياض (الأول).. الذي كان ساعتها قد أتم العاشرة من عمره: إعداداً وتنظيماً وخبرة في كل ما يتصل بـ (الكتاب)، وكيفية عرضه واستقبال زواره وإقامة فعالياته.. حتى أصبح معلماً ثقافياً من معالم العاصمة، وموسماً اجتماعياً من مواسمها.. يقصده أبناء مدن وقرى المنطقة الوسطى جميعاً، ويحرص على زيارته الكثيرون من أبناء مناطق المملكة المختلفة: شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.. بفضل جهود وكلاء وزارة الثقافة.. الذين تعاقبوا على إدارة المعرض وتطويره والارتقاء به شكلاً وموضوعاً مع الحرص من جانبهم على عدم تكرار السلبيات التي تظهر من عام لآخر.. بدءاً من الدكتور الجاسر.. إلى الدكتور السبيل.. إلى الدكتور العطية.. إلى الدكتور ناصر الحجيلان.
* * *
عندما عدت.. هاتفت أحد المسؤولين من أصدقائي في فرع الوزارة بجدة.. لأخبره بالنبأ (السعيد)، فوجدت أن خبر الموافقة السامية على إقامة معرض دولي للكتاب في جدة.. قد سبقني إليه، وهو ما أسقط عنده، كما أسقط عندي من قبل (مقولة.. إن المعارض الدولية للكتاب لا تقام إلا في عاصمة الدولة)، التي كان يرددها بعض كبار المسؤولين وكأنها (دستور) مقدس لا محيد عنه.. بينما كانت وماتزال دولة كدولة الإمارات الشقيقة تقيم ثلاثة معارض دولية للكتاب: في العاصمة أبو ظبي وفي عاصمتها الساحلية الكبرى (دبي).. بل وفي (الشارقة) المحدودة حجماً وسكاناً أيضاً.. كأن الهدف من وراء تلك المقولة وتكرارها.. تزهيدنا في المطالبة بمعرض دولي ثان للكتاب في جدة..؟!
تطوعياً، أتبعت هاتفي بـ(زيارة) له بعد أيام.. لأستمع لما لديه من أخبار عن (المعرض)، فلم أجد لديه أخباراً عن أي ترتيبات تم اتخاذها في الإعداد لإقامة المعرض، الذي يتوقع أن يقبل عليه (الناشرون) بكثافة.. نظراً لسهولة الوصول إلى (جدة) براً وبحراً وجواً، ولقربها من مكة المكرمة، وهو ما سيغري الناشرين المسلمين بالقدوم إليها.. وغير المسلمين أيضاً بسبب وجود هذا العدد الضخم من القنصليات العربية والأوروبية والأمريكية والآسيوية والأفريقية بها.
أخذنا الحديث بعد ذلك يمنة ويسرة.. إلى أن قال لي: إن أكبر مشكلة ستواجه المعرض هي: (متى) يقام المعرض.. وهل الشهور الباقية من هذا العام (2015م) كافية للتجهيز والإعداد وافتتاح المعرض..؟! يضاف إلى ذلك (المكان) الذي سيقام عليه..؟! فأرض المعارض - التابعة للغرفة التجارية الصناعية بجدة - والمرشحة لذلك بحكم تجربتها السابقة.. قد تكفي الناشرين ومعروضاتهم من الكتب التي سيأتون بها.. ولكنها ستضيق عن استيعاب (فعاليات) المعرض من المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية والقصصية التي عادة ما تحتويها معارض الكتاب، وأن الأفضل في حالة اختيار (أرض) معارض الغرفة التي تتولى استثمارها إحدى شركات القطاع الخاص.. أن تكلف الشركة بإنشاء (خيمة) كبرى راقية لتقام في داخلها فعاليات المعرض.
قاطعته.. قائلاً: ربما يوازي ما تفضلت به أهمية.. هو: من هي الجهة التي ستتولى الإشراف على المعرض..؟ ففي (الرياض) كانت جامعة الملك سعود.. هي من تولى الإشراف على معرضها الأول وربما الثاني، ثم انتقل الإشراف عليه بعد ذلك إلى (وزارة التعليم العالي).. لعام أو لعامين، ثم انتقل نهاية.. إلى (وزارة الثقافة) التي أبلت بلاءً حسناً في تنظيمه والإشراف على كل صغيرة وكبيرة فيه.. حيث كانت تشكل في كل دورة من دورات المعرض (لجنة ثقافية) من أدباء وشعراء وأكاديميي المملكة لصياغة فعاليات المعرض من الندوات والأمسيات الشعرية والقصصية والمحاضرات، ووضعها في أجندة مفصلة يجدها رواد المعرض في مداخله وفي مكاتب استعلاماته. فهل ستتولى (وزارة الثقافة) أو وكالتها للشؤون الثقافية منفردة إدارة المعرض ثقافياً وتجارياً ومالياً.. وهو ما قد يعطينا في النهاية صورة (كربونية) من معرض الرياض الدولي، الذي لم يكن ليقلل من وهج نجاحاته الكثيرة.. إلا كثرة المحاضرات الوعظية في معظمها، وغياب التراث الفني الشعبي.. عن مفرداته وأمسياته، وتهميش الفنين: التشكيلي والفوتوغرافي.
* * *
لقد تمنيت لو أن الوزارة أو الإمارة أو حتى المحافظة.. شكلت لجنة موسعة تضم آداب الملك عبدالعزيز ونادي جدة الأدبي، وبعضاً من رؤساء الأقسام الثقافية في صحافة جدة إلى جانب عدد من الأدباء وجمعية الثقافة والفنون وغرفة جدة التجارية الصناعية.. لإدارة المعرض تجارياً وصياغة فعالياته وندواته وأمسياته ولياليه التراثية الشعبية الفنية بما يتفق مع (جدة) وطبيعتها البحرية الجمالية الفنية.. التي ربما يعكس حقيقتها وجود هذا العدد الكبير من المجسمات والأعمال الجمالية المنتشرة في شوارعها وميادينها وعلى كورنيشها، وتفرغ هي - أي الوزارة - لرقابة الكتب التي سيحضرها الناشرون.. بذلك الأسلوب الرائع و(المبتكر) الذي تم اعتماده في معارض الرياض الثلاث الأخيرة.. وهو (إجازة معرض)..!؟ أي أن الكتب التي سيأتي بها الناشرون.. تجاز فوراً، وتعرض في المعرض.. ليُباع منها ما يباع خلال أيام المعرض، ومع نهايته.. يصطحب الناشر ما لم يُبع منها، ويقفل عائداً بها، وتفرغ الإمارة أو المحافظة.. إلى الجوانب (اللوجستية) في حفظ الموقع وسلاسة مروره وسلامته من قبل إدارات الشرطة والمرور والدفاع المدني.
إن تصوراً كهذا الذي لاح لي في إقامة معرض جدة الدولي للكتاب.. جدير بتحقيقه في مجتمع جدة الأهلي عبر أدبائه وشعرائه وفنانيه.. وعبر جامعاته وكلياته ومعاهده.. وعبر تجَّاره ورجال أعماله الكثر الذين عرفوا بمبادراتهم التربوية والاجتماعية والإنسانية الهائلة، فلم ينس مجتمع جدة رجالاً كـ (الشيخ محمد علي زينل) والشيخ عبدالرؤوف جمجوم مؤسسا مدرسة الفلاح.. أو كـ (الشيخ محمد أبو بكر باخشب باشا) والشيخ عبدالله سليمان الحمدان.. مؤسسا جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية.. أو الشيخ محمد علي مغربي منشئ مركز مكة لجراحة القلب.. أو الشيخ إسماعيل أبو داود وتبرعه لإنشاء مكتبة جدة.. أو الشيخ سراج عطار وتبرعه لإنشاء دار أيتام مكة لرعايتهم من الولادة.. حتى ذهابهم إلى الجامعة..!
* * *
على أية حال.. كان بعض هذا الحديث الذي سردته في السطور السابقة يتردد بصوت خفيض.. بين أعداد محدودة من الأدباء والكتاب والصحفيين.. إلى أن أعلن أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل في ختام أحد ملتقياته التي يعقدها كل شهر في منزله.. عن صدور الموافقة السامية على إقامة معرض دولي للكتاب في جدة، لتضج القاعة بالتصفيق: ترحيباً وتأييداً لها.. وسعادة بها، لتتسرب بعد أيام أول الأخبار عن (المكان) الذي سيقام فيه هذا المعرض الدولي المنتظر، الذي سبقته ثلاثة أو أربعة معارض للكتاب.. بعُد العهد بها، فكان أن تردد أنه سيقام في مباني (مدينة حجاج الجو) القديمة.. الملاصقة لمطار جدة القديم في شمال شرق حي (الكندرة) أو شرق تقاطع طريق الملك عبدالله مع طريق الملك فهد، لكن سرعان ما تبددت هذه الأخبار ليحل محلها خبر إقامته في أرض المعارض التابعة للغرفة التجارية الصناعية بجدة على طريق المدينة.. إلا أن تعديلاً ثالثاً - وأخيراً - طرأ على مكان إقامته.. حيث تقرر إقامة المعرض على أرض الاحتفالات الكبرى في شمال جدة.. إلى الشرق من كلية علوم البحار وإلى الجنوب من أبحر الجنوبية، ومع هذا التعديل المكاني الذي نرجو أن يصحبه التوفيق.. كان هناك خبر تعيين الدكتور سعود كاتب من قبل وزارة الثقافة والإعلام ليتولى صياغة فعاليات (المعرض) المصاحبة منفرداً أو مع مجموعة منتقاة من الأدباء والأكاديميين والفنانين، فـ (التجارة) و(الأدب) و(الفن) يشكلون بنية جدة وقوامها، وهو ما يجعلني أذكره.. بأن أهل جدة يريدونه (معرضاً) بصرياً سمعياً، يقرأون فيه الكتاب والديوان.. ويشاهدون فيه اللوحة والصورة.. ويستمعون فيه إلى (الفلكلور) الحجازي الشهير.. إلى مزماره وصهبته ومجاريره.
فمغنيها القديم.. كان يضع رأسه على ترابها بعد تعب النهار وهو يقول:
(شط البحور مرقدي/ والموج بنى لي فيها دار).
وإلى اللقاء.. مع معرض الكتاب الدولي في جدة في يوم افتتاحه في الثاني عشر من شهر ديسمبر القادم.