د.عبدالله مناع
ربما كانت هذه هي المرة (المائة)..! وربما كانت هي المرة (الألف).. التي تعارض فيها الولايات المتحدة الأمريكية قيام (دولة فلسطينية) على ترابها الوطني، إذ لم يعد في وسع ذاكرة المحللين السياسيين والمعنيين والمتابعين لقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي..
حصرها! فهي إما تعارضها بـ(الفيتو) الأمريكي.. إذا عُرض أي شأن من شؤونها على (مجلس الأمن) وبـ(مقاومته) ورفضه إذا عُرض على (الجمعية العامة) للأمم المتحدة، فإذا شعرت بشيء من الحرج لـ(دبلوماسيتها) أو لـ(دبلوماسييها) في الجمعية العامة.. أخذت قرارها بـ(بالامتناع) عن التصويت، وهو ما يعني معارضتها أيضاً.. رغم أنها (راعي السلام)!! بين إسرائيل والفلسطينيين.. ورئيس اللجنة الرباعية - بالهيمنة - لإنفاذ مشروع (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام)، الذي تبناه مجلس الأمن عام 2002م، وكلف (الرباعية) بإنفاذه عن طريق التفاوض بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، والذي لمع في أساسه - ولا يدري أحد كيف - في ذهن (عبيط) الرئاسات الأمريكية (بوش الابن).. الرئيس السلف للولايات المتحدة الأمريكية، فلم تتمكن (الرباعية) من إنفاذه في ولايتي (العبيط).. وكانت حجته بداية: أن رجل السلام (إيريل شارون) - هكذا..!! - لا يجد في شخص الرئيس ياسر عرفات - حامل جائزة نوبل للسلام عام 1995م - (رجل سلام) ليتفاوض معه!! وهو ما حمل الزعيم الوطني الفلسطيني الكبير (عرفات) على التنحي عن الرئاسة الفلسطينية - التي حُمل إليها عبر صناديق انتخابات رئاسية نزيهة شارك فيها مواطنو (القدس الشرقية) مع تطبيق المرحلة الثانية من اتفاق أوسلو عام 1995م - لخلفه الرئيس محمود عباس.. فداءً لقيام (الدولة)!!.. ولم يتحقق حلم قيام الدولة الفلسطينية التي تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في سلام، إلى أن مرض وهلك (شارون).. وخلفه أولميرت.. ولم يتحقق حلم (الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام).. وإلى أن غادر (بوش الابن) البيت الأبيض، وحل محله أول رئيس أسود يدخل إلى البيت الأبيض: (باراك أوباما).. الذي استهل دورته الأولى بخطابه الأعظم في جامعة القاهرة في الخامس من يونيه من عام 2009م، والذي بكى فيه من ظلم الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين، وحق الفلسطينيين في العيش الحر الكريم أسوة ببقية شعوب العالم.. فتمايل العالم طرباً وسعادة لخطابه المنصف العظيم، وبات وهو على يقين من أن الإعلان عن قيام (الدولة الفلسطينية) والاعتراف بها أمريكياً أصبح قاب قوسين أو أدنى.. وأنه إن تأخر فلن يزيد عن ثلاثة إلى أربعة أشهر، إلا أنه لم يتحقق شيء من ذلك لا في دورة أوباما الأولى، ولا في دورته الرئاسية الثانية التي توشك على الانتهاء رغم الجهود التي بذلها ثالث وزراء خاريته (جون كيري) على مدى تسعة أشهر من المفاوضات الماراثونية المحددة السقف - على ما يبدو - بين (نتنياهو) و(أبومازن)، إذ إنه كان لـ(كيري) خلالها أن يُظهر للفلسطينيين أجمل المواقف وأعدلها تجاه القضايا العالقة بين الطرفين (القدس، والحدود، والاستيطان وحق العودة).. بل وأن يُسمعهم ويسمع العرب من حولهم أحلى الكلام عن صبرهم ومعاناتهم الطويلة.. دون أن يحقق شيئاً على أرض الواقع!! وهو ما كان فعلاً.. بدليل أنه ظل يتحدث بـ (تكتم) شديد - بعد الستة أشهر الأولى من محادثاته - عن نتائجها، التي سيطرحها في (مشروع) ختامي على الطرفين.. فإن وافقا عليه وقبلا به.. سيتم الإعلان عن قيام (الدولة الفلسطينية) المستقلة في كل من القدس الغربية ورام الله بالتزامن.. أو من البيت الأبيض نفسه، وهو ما لم يحدث.. بل ولم يطلع أحد على تفاصيل ذلك (المشروع)، وإلى أن توقفت المحادثات في سبتمبر ما قبل الماضي.
* * *
لست أريد في هذه السطور أن أصدع رؤوس القراء بـ(الغوص) في ملف المعارضات الأمريكية لـ(فلسطين) والفلسطينيين وحلمهم بـ(الدولة المستقلة) الذي امتد بامتداد سنوات القرن العشرين الماضية.. منذ أن فرضت الولايات المتحدة - بلجنة ملنر - تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر من عام 1947م بشرائها لأصوات ثلاث عشرة دولة ليصوتوا لصالح التقسيم.. حتى يفوز بـ(33) صوتاً تمثل أغلبية دول العالم في فجر قيام منظمة الأمم المتحدة، بل سأترك الثلاثة والخمسين عاماً الماضية من القرن العشرين إلى الحديث عن (معارضاتها) في سنوات هذا القرن (الواحد والعشرين)، والتي بدأت بـ(تطنيشها) لـ(مبادرة السلام) التي اقترحها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز - عندما كان ولياً للعهد - عام 2001م لـ(السلام) بين العرب وإسرائيل عامة.. وليس بين إسرائيل والفلسطينيين خاصة، والتي جرى تمحيصها وتدقيقها من قبل خبراء وسياسيين أمريكيين كان من بينهم الصحفي الأمريكي الأشهر (فريدمان)، ليجري تقديمها فيما بعد إلى القمة العربية التي عقدت في بيروت في شهر مارس من عام 2002م، والتي تبنتها بالإجماع.. وأعادت تقديمها إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي والرأي العام - بكل أطيافه - باعتبارها (مبادرة سلام) عربية، تدعو إلى إنهاء النزاع مع (إسرائيل) والاعتراف بها، وتبادل التمثيل السياسي معها، وفتح الحدود بينها وبين العرب أمام السياحة والتجارة.. إلخ، مقابل: انسحاب (إسرائيل) من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها غدراً في الخامس من يونيه/ حزيران من عام 1967م، والاعتراف بـ(الدولة الفلسطينية) على حدود الرابع من يونيه/ حزيران من عام 1967م.
وإذا كانت (المبادرة العربية للسلام) عند الإعلان عنها، قد أذهلت العالم كله من أقصاه إلى أقصاه.. لأنها أتت من المملكة العربية السعودية، أقوى دولة بترولية في العالم.. والبلد الذي يضم في رحابه الحرمين الشريفين ومقدسات الإسلام والمسلمين، فإنها لم تحرك ساكناً عند (إسرائيل).. وكأنها لم تكن، ومع ذلك شكلت الجامعة العربية وفداً من وزراء خارجيتها برئاسة وزير الخارجية السعودي آنذاك الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - للذهاب إلى واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن.. آنذاك - باعتباره المُعتَمد الإسرائيلي - لشرح (المبادرة العربية) له، والتي لم تكن بحاجة إلى أي شرح أو أية إضافة، ولو أن (حزب العمل) كان يحكم إسرائيل.. لخر أعضاؤه ساجدين حمداً لله، لأن العرب قبلوا بهم أخيراً.. وقبلوا باغتصابهم لأرضهم.. بل وجاؤوهم معترفين بهم ومسالمين لهم، أما المعتوه بوش الابن.. فقد أحسن استقبال الوفد، واستمع إليه.. ثم ودعه أحسن وداع دون أن يقول كلمة ترحيب بـ(المبادرة) أو تأييد لها!! ليعود الوفد بخيبة أمل غير متوقعة له وللعالم أجمع، لم تجعل أحداً منهم يفتح فمه بـ(كلمة) واحدة..!!
ثم كان الاعتراض الأمريكي (الثاني) عند التصويت على قبول دولة فلسطين كـ(عضو مراقب) في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث صوت العالم كله بـ(نعم).. إلا الولايات المتحدة وزبانيتها من المعوذين والمضطرين.. الذين قالوا (لا).. أما الثعلب العجوز بريطانيا.. فقد ركنت كالعادة إلى (الامتناع) عن التصويت..!
لكن يبدو أن خطاب (أوباما).. الذي جاء بعد ذلك في عام 2009م، فـ(المفاوضات) الماراثونية التي بدأها جون كيري في 2013م بتكليف منه، قد أثارتا موجة عارمة من التفاؤل والأمل في (حلحلة) الموقف الأمريكي المعاند والمتربص بـ(قيام) الدولة الفلسطينية، والمنتَقَد - في ذات الوقت - سراً والمسكوت عنه علناً من قبل دول العالم المؤمنة بأن (العدل) هو قاعدة السلام الحقيقية في أي مكان وكل زمان.. ليحمل كل ذلك معاً رئيس وزراء السويد (ستيفان لوفين) - وليس غيره - على القيام بأجرأ خطوة سياسية معاصرة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. عندما أعلن في الثالث من أكتوبر من العام الماضي: (اعتراف) البرلمان السويدي بـ(الدولة الفلسطينية) المستقلة..!!
لقد احتفل شرفاء العالم - آنذاك - بهذا الاعتراف السويدي التاريخي، الذي حذت حذوه الجمعية التأسيسية الفرنسية.. بل والبرلمان البريطاني العتيد نفسه، إلا أنه طُلب منه إرجاء إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. لتوقيت الحكومة البريطانية.. لكن المفاجأة الكبرى التي كانت بانتظار (ستيفان لوفين) والبرلمان السويدي والعالم كله.. ليس في اعتراض (إسرائيل) المتوقع على (الاعتراف) السويدي.. ولكن في اعتراض الولايات المتحدة راعية السلام، والمكلفة من قبل (الرباعية) بتحقيق حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام والتي لم يكفها الاعتراض على الاعتراف السويدي.. بل وسفهته بأنه (سابق لأوانه)! مع العزم على اتخاذ عقوبات ضده بالامتناع عن استيراد المواد الغذائية منها.. والتي تشكل عصب الاقتصاد السويدي.
ثم أضافت قبل أسابيع قليلة اعتراضها الرابع - وليس الأخير بكل تأكيد - على رفع علم دولة فلسطين فوق صارية مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة.. في نيويورك!
فأي راع هذا لـ (السلام)..؟!
* * *
لقد آن الأوان لإنهاء (أكذوبة) السلام الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية بين الفلسطينيين والإسرائيليين..!! بل وجاء الوقت بعد أكثر من عشرين عاماً من اختطاف الولايات المتحدة الأمريكية لـ(اتفاق أوسلو) - بإعادة التوقيع عليه في الثاني عشر من سبتمبر من عام 1993م بصورة مسرحية.. بينما التوقيع الفعلي كان قد تم قبل أكثر من شهر في (أوسلو) في التاسع عشر من شهر أغسطس من عام 1993م - لإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية عن رئاسة اللجنة الرباعية، خاصة بعد أن أعيد تشكيلها في سبتمبر الماضي بدخول الاتحاد الأوروبي إلى جانب روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة بـ(أمينها العام)، مضافاً إليهم مصر والمملكة والأردن.. وهو ما يتيح الفرصة لاختيار رئاسة جديدة لها تؤمن حقاً بـ(حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام).
أما إذا جرى التجديد لرئاستها أمريكياً فلن يتحقق شيء.. وهو ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية.