د.عبدالله مناع
بعد جلسة وداعية مختصرة - لم أردها - على رصيف مقهى (كارولينا).. في ثاني صباحاتنا في (ميلانو).. كنت ألملم أشيائي، لأركض صوب فندق (أونو) على الرصيف المقابل.. حتى ألحق بـ(جمعنا) في بهو الفندق، وهو ينتظر نزول حقائبنا القليلة..
لوضعها في «السيارة» استعداداً لمغادرة الفندق، ومدينة (ميلانو) نفسها.. التي لم تشبعْني زيارة الأربعين ساعة الماضية لها، لأسأل موظفيْ استقبال الفندق.. وقد حانت لحظة وداعي لهما: ولكن ما معنى كلمة (أونو) أو (UNO) هذه.. التي يُسمي الفندق نفسه بها..؟
لتجيب إحداهما، وهي تضحك متجاوزة دهشتها من تواضع: إيطاليتي.. إلى هذا الحد: (أونو)..!؟ يعني (الأول)..!!
فهززت رأسي.. مثنياً على قولها.. بأنه (الأول) - على ما بدا - في درجته: نظافة وخدمة، وليس أدل على ذلك.. من ثقة إدارته بنفسها في اختيار اللون (الأبيض) بدرجاته - وليس غيره - ليكون هو لون حوائط مدخله، ولون غرفه وممراته.. بل ولون مقاعد أثاثه.. في بهو استقباله، المزود بشاشة تلفزيونية إخبارية.. تنتصب فوق (مكتبة) جدارية بها بعض ما صدر حديثاً من كتب بالإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية (!؟) وكأن (أونو) أراد بها أن يؤكد هويته الثقافية بأكثر من هويته السياحية.. اتفاقاً مع الصورة التاريخية لـ(ريادة) إيطاليا الثقافية: (شعراً) عبر (دانتي) و(كوميدياه)، و(تشكيلاً) عبر (دافينشي)، و(سينمائياً).. عبر خروج كاميراته من القصور و(الفيلات) إلى الحواري والأزقة لتصوير وتقديم واقع حياة المهمَّشين فيها، و(مسرحاً) عبر (بيرانديللو).. رائد مسرح (اللا معقول) في الستينيات ومكتشفه، الذي حذا حذوه كاتب المسرح العربي الأول الأستاذ توفيق الحكيم.. بمسرحية (يا طالع الشجرة)، المستوحاة من أرجوزة أو أسطورة: (يا طالع الشجرة.. هات لي معاك بقرة).. غير المعقولة أبداً!!
* * *
كان طريق الخروج من (ميلانو).. سهلاً ميسوراً بفضل الخريطة الإلكترونية التي جاءت بنا إلى (ميلانو) عند قدومنا إليها، ولكن السؤال.. الذي شغلنا: هو: كيف الوصول إلى (بحيرة كومو)..؟
أهي على طريق (الأوتوستراد) الدولي نفسه..؟ أم أن لها مخرجاً خاصاً بها.. وكم هو طوله..؟!
فظهر.. بعد (التقليب) في صفحات (الإنترنت) أن لها مخرجاً بطول تسعين كيلاً، وهو ما جعل البعض يعلن عن تردده في الذهاب إليها.. ولكن، ولأنها (كومو) جميلة جميلات بحيرات (اللمباردو) في شمال إيطاليا.. التي يقصدها عشرات عشرات الآلاف من داخل إيطاليا ومن خارجها كل عام، ويتمنى ويحلم بالوقوف على ضفافها.. مثلهم، والتي تحدثت لهم عنها كثيراً وطويلاً - هائماً مفتوناً بسحرها - من مخزون زيارتي لها.. ليوم واحد قبل أكثر من ثلاثين عاماً.. جعلت شهية المعرفة عندهم تنتصر على سواها، لنجد أنفسنا في النهاية على ضفاف مياهها البلورية الزرقاء..!!
* * *
إذاً هذه هي (بحيرة كومو) أخيراً.. وهذه هي زوارقها ومراكبها ويخوتها البيضاء..وهذه هي أشجار التوت والتين والكستناء التي تقتحم ضفافها.. وهذه هي دروبها ودورها بقرميدها الأحمر، وهي تتزاحم حولها!! لقد بدا المشهد خلاباً بكله.. وكأنه صورة منزوعة من خيال شاعرها الأول، الذي فُتن بها: أحمد فتحي.. صاحب قصيدتيْ (الكرنك) و(قصة الأمس) الشهيرتين بغناء عبد الوهاب وأم كلثوم لهما، والذي تردد عليها كثيراً.. وكتب وتحدث عنها طويلاً، وعندما مات مأسوفاً عليه.. وضعت (بلدية كومو) اسمه على أحد ميادينها.. قبل أن يلحق به مفتونها (الثاني): ملاح وادي النيل.. علي محمود طه.. ويقص قصتها، ويحكي حكاية عشقه لها - في ديوانه الأجمل (الملاح التائه) - عبر ستة وستين بيتاًَ من قصيدته الرائعة.. التي حملت اسمها: (بحيرة كومو)، والتي يقول في أولها:
(هيئ الكأسَ والوتر
تلك «كومو» مدى النظر
واصدحي، يا خواطري..
طُوِيت شُقّة السفَر
ودنت جنة المنى
وحلا عندها المقر)
.. ليقول في منتصفها:
(بابل؟ أم بحيرة؟
أم قصورٌ من الدرر
أم رؤى الخلد في الحـ
ـياة تمثلن للبشر؟)
.. وليروي قصته معها:
(شاعر النيل، طُفت بها،
غَنِّها كل مُبتكر
الثلاثون قد مضت
في التفاهات والهَزَر
فتزود من النعيم
.. لأيامك الأخَر
أين وادي النخيل، أم
قاهرياته الغُرَرْ
لا تقل أخصَبَ الثرى
فهنا أورق الحَجَرْ
ها هنا يشعر الجما
د ويوحي لمن شَعَر
آه.. لولا أحبة
نزلوا شاطئ النهَر
ورفات مطهر
وكريمٌ من السِّيَر
لتمنيت شرفةً
لي في هذه الحُجَر
أقطع العمر عندها
غير وان عن النظر)
.. ليختتمها قائلاً:
(يا ابنة العالم الجديـ
ـد صلي عالماً غَبَرْ
في دمي من تراثه
نفحةُ البدو والحضر
وأغان لمن شدا
ومعان لمن فَخَرْ
ما تسرينَ؟ أفصحي!
إن في عينيك الخَبَر)
فقد كانت (مصر)، وبامتداد النصف الأول من القرن العشرين على أوثق العلاقات الثقافية وأعمقها مع عاصمتيْ الإبداع والفكر والأدب والفلسفة والفن في أوروبا: (باريس) و(روما).. ولذلك كثر التردد عليهما، والتعلم والإلهام منهما.. والكتابة عنهما قبل وبعد أحمد فتحي وعلي محمود طه.
* * *
كان (المشي) على ذلك الجزء من رصيف (بحيرة كومو)..متعة لا تعادلها متعة وسط الناس وبينهم، وقد زاد من درجة إمتاعها في ذلك اليوم من أواخر شهر يوليه.. تلك الغيوم التي أخذت تتجمع في سمائها، أما فكرة الطواف بـ (البحيرة) كلها.. سيراً على الأقدام.. فإنها تمثّل استحالة عملية، فالبحيرة التي يبلغ طولها خمسين كيلاً.. وعرضها بين الأربعة إلى الخمسة.. لا يمكن أن يطوف بها طائف سيراً على الأقدام، ولذلك قامت شركات السياحة الإيطالية وما أكثرها بتوفير تشكيلة من الزوارق و(اللنشات) والمراكب الشراعية واليخوت الصغيرة والكبيرة.. للتجول بها في البحيرة.. ورؤية محيطها والقرى والمدن الإيطالية الصغيرة حولها.. والوديان والتلال والجبال التي تلتف عليها وتتخللها، والتي يبلغ ارتفاع أعلاها جنوباً ألفي قدم وشمالاً ثمانمائة قدم، إلى جانب الاستمتاع بعمق البحيرة الهائل والفريد بين البحيرات الأوروبية قاطبة.. على كثرتها، إذ يبلغ عمق (بحيرة كومو).. سبعمائة ياردة تتخللها أسماك لا حصر لها ولا أجمل منها، إلى جانب وجود تلك المطاعم المائية العائمة التي تجوب البحيرة.. لتقديم وجبتي الغداء والعشاء طوال أيام إجازات نهاية الأسبوع.. وعلى امتداد أيام الصيف وحتى نهاية الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر.. حيث يبدأ الخريف وموسمه ورياحه.
لقد استلفت انتباهي مع شيء من الدهشة والحسرة..كثرة المباني وازدحامها على تلك التلال والوديان المحيطة بـ(البحيرة).. بأضعاف ما كانت عليه عند زيارتي الأولى لها، ولكن سرعان ما هوّنت على نفسي الأمر.. بأن تلك هي ضريبة (الجمال)، الذي تسبح فيه كومو وبحيرتها، فالناس.. كل الناس، يحبون الجمال ويعشقونه، وتهفو قلوبهم إليه.. سواء كان في الجماد أو الطبيعة أو البشر، وكل منهم يريد أن يكون له نصيب منه.. حصة فيه، أو (شرفة).. كما قال الملاح التائه شاعر قصيدة (بحيرة كومو).
* * *
عندما تحولت الغيوم.. إلى رذاذ، فرعود فأمطار تتدفق على غير المتوقع.. كنا نتراكض صوب الشرفة الأرضية لمطعم (فندق ميتروبول سويسرا)، الذي صادف وجودها أمامنا.. في ممشانا على رصيف (البحيرة).. لنلتف حول مائدة من موائده لنتناول غداءنا، ولتنشق الأرض عن بائع مظلات (سيرلنكي) أسمر.. لا ندري من أين ولا كيف جاء!؟ ليبيع لكل منا (مظلة) يحتمي بها من الأمطار عند مواصلة سيرنا، لنمضي حول تلك الطاولة المستديرة ساعة من العمر.. بين أمطار تتدفق، و(بحيرة) يتراقص ماؤها.. تحت وابله، لنقول في ختامها: وداعاً كومو.. وداعاً بحيرتها الفاتنة الخلاّبة.