د.عبدالله مناع
ليست هذه هي المرة الأولى التي يُغيِّب الموت فيها عَلَماً من أعلام الوطن، ورجلاً من رجالاته الأفذاذ ونجماً ساطعاً من نجومه.. فلا أشارك في وداعه بحضوري ولا أرثيه بقلمي، فقد مات (الأستاذ الزيدان).. المؤرخ والنسَّابة والمثقف الموسوعي ذات صيف، فلم أكن بين باكيه ومودعيه لغيابي خارج الوطن..
إلا أنني لحقت بوداعه.. بعد أن صمت المقرئون، ورُفعت المقاعد، وأُطفئت أنوار (سرادق) العزاء.. بمرثيتي الطويلة التي بعثت بها إلى روحه - على صفحات جريدة المدينة وقد كنت أحد كتّابها - والتي كانت بعنوان (زيداننا.. إني أعتذر)، ومات الأستاذ ناصر المنقور.. عَلَم الوطنية الأبرز في (الرياض) والمؤسس الحقيقي لـ (جامعتها)، ونجم الإدارة والوزارة.. في ثاني - أو ثالث - وزارات الملك سعود - رحمه الله - والتي سُميت بـ (وزارة الشعب).. فسفير العواصم النائية من (طوكيو) في جنوب شرق آسيا إلى (أستوكهولم) و(أوسلو) في الجزر الإسكندنافية في أقصى الشمال الأوروبي.. إلى (مدريد) في جنوب غرب أوروبا.. وأخيراً إلى (لندن) في أعظم سفاراته.. حيث تقاعد فيها ومات مأسوفاً عليه، فكانت غصتي أنني لم أعلم حتى بوفاته في يوليه من عام 2007م..!! ولا أدري إن كانت هي غيبوبتي التي جعلتني لا أقرأ خبراً عن وفاته ولا نعياً في رثائه، أم أنها غيبوبة الإعلام التي تصنع من الخبر العادي إن أرادت (حدثاً).. ومن الحدث - إن لم ترد - خبراً هامشياً في الصفحات الداخلية لا يلمحه أحدٌ؟ فلم أبرأ من تلك الغصة.. إلى يومنا هذا، وإلى أن أكتب عنه مقالي.. الذي طمأنت به نفسي لاحتواء غصتي على فَقْد الشيخ ناصر المنقور، وهذا هو ثالثهم.. الشيخ علي الجميعة: شيخ الوطنية والحب لهذه الأرض، والحنو على أبنائها، و(الحاتمي).. في الإغداق على طلبة (تقنيتها) و(معلميها) ورياضييها فجامعتها، وفي (استزارته) لمثقفي وأدباء المملكة وأكاديمييها لرؤية حائل الجديدة والكتابة عنها.. الذي رحل إلى الرفيق الأعلى في الخامس عشر من شهر ذي القعدة - الموافق للثلاثين من شهر أغسطس الماضي - فلم أعلم برحيله.. إلا بعد عودتي في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الماضي.. وقراءتي لتلك المراثي الضافية المنصفة التي كتبها أبناء حائل، وطالعتنا بها صحيفتنا (الجزيرة).. لأُفاجأ وأفجع برحيله رغم إيماني بما قاله الإمام الشافعي في بيته الشهير:
قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
* * *
لكن فضائل الشيخ علي الجميعة.. لم تقف عند حد حائل وأبنائها والمعوزين من طلبتها وشيوخها ونسائها وأيتامها.. بـ (دعم) جمعياتها الخيرية: كـ (جمعية حائل الخيرية) و(جمعية رعاية الأيتام) و(جمعية تحفيظ القرآن)، أو دعمه لـ (جمعية الثقافة والفنون) و(نادي حائل الأدبي)، أو إقامته لـ (كرسي التنمية الزراعية المستدامة) في جامعة حائل، أو لـ (تأسيسه) ملتقى الجميعة الزراعي في غرفة حائل التجارية، أو لترؤسه مجلسي أعضاء الشرف لناديي (حائل) الكرويين الشهيرين: (الطائي) و(الجبلين).. حيث أغدق عليهما بـ (الملايين) مجتمعة.. ولكنها امتدت - وإن بصورة مختلفة - إلى غيرها من مدن المملكة: إلى الرياض عموماً، وجدة خصوصاً.. بحضوره ومشاركاته ومبادراته الإيجابية، واستنارته التي لفتتني إليه عندما رأيته لأول مرة في حومة شارعي الملك عبد العزيز وقابل.. بطوله الفارع، وأناقته المفرطة وروح المودة التي تشع من عينيه.. وقد كان آنذاك في أوج صعوده لسلم عصاميته: مالكاً ومديراً إدارياً لشركة (ساديكو) للمقاولات المعمارية، يعاونه هندسياً المعماري الفنان المهندس (أنيس مجدي)، الذي كرَّس معماريته في هندسة تصاميم القصور و(الفلل) الصغيرة.. في ذروة سباق القادرين والميسورين، بل والمتوسطين على بناء القصور و(الفلل) الصغيرة في طريق مكة وطريق المدينة و(الرويس) وحول شارع فلسطين.. قبل أن تنشأ أحياء جدة الجديدة كـ (الحمراء) و(الروضة) والعزيزية.. وما لحق، لتحقق الشركة أفضل أرباحها.. إلا أن الشيخ الجميعة أدرك بذكائه: انحسار موجة السباق.. على بناء القصور والفلل الصغيرة، وهو ما جعله يُعجِّل بتصفية الشركة.. وإعطاء العاملين فيها.. كامل حقوقهم، وما فوقها.. وهو ما جعل اسمه يستقر في ذاكرتهم ووجدانهم: عرفاناً وتقديراً ومحبة.. إلى يومنا هذا، لينتقل عائداً من (عروس البحر) إلى (عروس الشمال).. إلى حائل وجبليها وحقولها وزراعتها التي لم ينقطع عنها.. حتى وهو في ذروة نجاحاته في (ساديكو).
* * *
ولكن.. ومع انشغاله بـ (الزراعة) ومشاريعها، وطموحاته في أن يكون للمملكة إسهامها الفعلي في أمنها الغذائي عند الحاجة، وبـ (السياحة) التي تم الاعتراف بها مؤخراً مع قيام (الهيئة العامة للسياحة والآثار) ومشاريعها الإسكانية والترفيهية حول مواقع الآثار.. إلا أنه لم ينس (جدة) ومجتمعاتها وحياتها وصوالينها الكثر، فقد كنت أراه وأسمعه في صالون المرحوم الأمير ماجد أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك.. وفي صالون نائبه - الأمير سعود بن عبد المحسن - الذي غدا فيما بعد أميراً لمنطقة حائل نفسها.. وفي صالون الأمير عبد المجيد ثم في صالون الأمير خالد الفيصل.. بل وكثيراً ما كنت أراه في ليالي (الإثنينية): مستمعاً ومستمتعاً بطروحات (ضيوفها) من الأدباء والمفكرين والشعراء والباحثين.. وحوارات روادها معهم، وهو ما دلّني على علاقته - بالأدب والفكر والإبداع عموماً - التي كان وكأنه يتكتّمها تواضعاً، إلى أن فاجأني والوسط الثقافي كله بـ (دعوته) لمجموعة من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين.. لزيارة معشوقته (حائل) لليلتين من ليالي ربيعها: سفراً وإقامة على نفقته.. من حين مغادرتهم لمنازلهم أو مكاتبهم.. وإلى حين عودتهم إليها، وقد لعب الصديق العزيز الدكتور عبد الله المعطاني.. دور المنسق لتلك الرحلة.. التي أمضى أعضاؤها فيها ليلتين من العمر بين كرم الشيخ علي الجميعة الأسطوري وحفاوته وأحاديثه الغنية بالتجارب، ليعودوا بعدهما.. محمّلين بالكثير من المعارف عن جبلي حائل الهائلين: «أجا» و»سلمى» والحضارة التي صنعاها وفرة ورخاءً وعزاً.. عبر مئات السنين، وبالكثير من الذكريات الجميلة عن حائل وأهلها ولياليها، وبالكثير من أجود تمورها.. فلم يشأ الشيخ الجميعة أن يغادر ضيوفه حائل.. فارغي الأيدي؟!
ثم كانت مفاجأته الثانية للوسط الثقافي كله.. عندما قدم ساعة مكتب ذهبية - صنعتها له خصيصاً إحدى شركات الساعات السويسرية - لتقديمها لصاحب الإثنينية: الشيخ عبد المقصود خوجة.. تقديراً له ولـ (الإثنينية).. بمناسبة مرور سبعة وعشرين عاماً على تواصل لياليها، وقد كتب في قلبها وتحت عقربيها:
[إهداء.. مع التحية إلى عمدة الأدباء الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجة كريم الإثنينية والذي أحياها علماً وأدباً وعطاءً وكرماً طوال سبعة وعشرين عاماً من 1403 إلى 1430هـ]. التوقيع: المواطن علي بن محمد الجميعة.. وهي (هدية) لم يفكر بها أحد من رواد الإثنينية، فضلاً عن أن يصنعها ويقدمها هدية لـ (الخوجة) في هذه (الذكرى).. ولكنه كرم الشيخ علي الجميعة، ومقياس مبادراته الفريدة دائماً والمذهلة أحياناً.
ثم كانت مفاجأته (الثالثة) لي شخصياً، عندما أهداني ذات يوم.. كتاباً له بعنوان (الروح والريحان)، تضمَّن الكثير من مقالاته وقصائده.. في حب الوطن وحائل، وفي شؤونه وهمومه.. إلى جانب الحديث عن تجربته الحياتية: (مقاولاً) بعض الوقت.. و(مزارعاً) طول الوقت، ولم أكن أدري - آنذاك - أنه يمارس الكتابة: شعراً ونثراً، وهو ما يدعوني - اليوم - لمطالبة ابنه (محمد).. بإحالة الكتاب إلى شخصيتين مقتدرتين إعلامياً وأكاديمياً لقراءة الكتاب وفرزه وإعادة تبويبه.. وهو ما قد يعطينا في النهاية أكثر من كتاب.. ليُعاد طبعه في صورته الجديدة.. خدمة لأولئك الذين يريدون أن يعرفوا تجربة الشيخ علي الجميعة الفريدة حقاً.
* * *
لقد عُرف عن أهل (حائل) عموماً وعبر الأيام والسنين: السخاء والكرم وحسن استقبال ضيوفهم.. بل والعابرين بأرضهم، باعتبارهم أبناء أكرم العرب على مر العصور، وحفدته: (حاتم الطائي).. القائل عن نفسه:
أبيتُ خميصَ البطنِ، مُضمرُ الحشَى
حياءً أخافُ الذم أن أتضلَّعا
.. والقائل عن نفسه أيضاً:
وإني لأخزى أن ترى بي بطنةٌ
وجارات بيتي طاويات، ونُحَّفُ
..والقائل لزوجته (ماوية):
يا ابنة عبد الله، وابنة مالك
ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردي
إذا ما صنعتِ الزادَ، فالتمسي له
أكيلاً، فإني لست آكله وحدي
.. لكن الشيخ (الحائلي) علي الجميعة.. بدا من خلال كرمه وعطائه الممتدين على كثير من أوجه الحياة في (حائل) وغيرها، كما لو أنه حاتم الجديد.. أو (آخر) حاتم فيها، ولذلك.. فقد كانت الفجيعة في فقده كبيرة.. بكبر عطائه وما قدمه، وكان التّنادي بـ (تكريمه).. الذي دعا إليه راثوه وكاتبو سيرته، وفي المقدمة منهم الأستاذان عبد العزيز العيادة وخالد الباتع يرقى إلى مرتبة (الحق) و(الواجب).. سواء بوضع اسمه على إحدى قاعات جامعة حائل أو على أحد ميادينها أو ثانوياتها أو استاداتها الرياضية أو على أحد أكبر منتزهاتها السياحية الجديدة، وأياً من ذلك.. يبقى قليل أمام كثيره.
رحمه الله.. وعوَّض الله حائلاً وأهلها خيراً.