د. فهد صالح عبدالله السلطان
في الساعة الحادية عشرة من صباح الثلاثاء الماضي، كنا أم فيصل وأنا وأبنائي الثلاثة، على موعد لم يؤخذ لنا رأي فيه في توديع صديقة وشريكة وأم وأخت وبنت، وقبل هذا وذاك زوجة وفية صالحة مهدية. كنت ومن ورائي شقيقتها وقوفا على رأسها محاولاً محاولة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف يملك لغيره، وضع قطرات من الماء في فمها الطاهر لعل ذلك يخفف من معاناتها، عندما قَدِم هذا الضيف (....) ودخل الغرفة واستلمها مني بدون سابق استئذان ولا إنذار. نعم إنه مُرسل من ملك الملوك جلّ شأنه، له ما أعطى وله ما أخذ. استدعيت حينئذ الطبيب للتأكد من الأمر ... ومن ثم أدركت بأنه حان وقت الوداع الأبدي وانطوت صفحة من حياتي ..... أمرك يا رب.
سبحانه لا رادّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه. عاشت المرحومة معركة مع خلايا المرض تنتصر فيها هي مرة وتنتصر الخلايا مرات، في رحلة علاجية طافت من خلالها أكبر وأفضل أربعة مستشفيات في العالم أملاً في وجود علاج لما أصابها، ولكن القدر كان أقوى. وفي كل يوم يزداد إيماني بضعف المخلوق أمام تدبير الخالق وقضائه.. فالأمر لله من قبل ومن بعد. لقد انتهت المعركة بطيْ صفحة أساسية من حياتنا.
وسرعان ما بدأت ذاكرتي باستعادة شريط الحياة الذي شعرت أنه حلم قصير قد لا يزيد على سويعات أو دقائق معدودة، وصدق القائل جلّ شأنه {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ...}.
لقد طافت بي الذاكرة فتذكرت إنسانيتها وقربها إلى الله وإحسانها إليّ وعفوها عني وتجاوزها عن زلاتي، وخدمتها لوالدي ولأُسرتي واحترامها للآخرين، ومحبتها لهم وحبها لأقاربها ولزميلاتها في العمل وللخير وأهله. وتذكرت أيضاً أنني لم أتغافل عن زلاّتها إلاّ زادني ذلك قدراُ عندها وزيادة في احترامها لي. والعفو عن المخلوق مجلبة لعفو الخالق {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}. ولم أكرمها إلاّ أكرمتني بما هو أكثر وأكبر {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}. ولم أحسن إليها إلاّ وقد أفضى ذلك في قلبي سعادة وطمعاً في محبة الخالق فالله {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ولم أقدم الخير على المحاسبة وأحسن الظن بأفعالها إلا زادني ذلك طمأنينة وسعادة في دنياي، وأرجو أن يصلح به الله آخرتي.
نعم.. الفراق مصيبة ولكن فيه عبرة.. وأكبر عبرة هي فراق هذه الدنيا بدون سابق إنذار ولا إخطار. فهل من مدّكر؟ كم هي الحياة قصيرة!!!
والعبرة التي أردت التذكير بها ليست في الموت فقط فهو نهاية حتمية لكلٍّ منا، ولكنني حاولت التذكير والتذكير فقط، بأنّ الانتصار على النفس في التعامل مع شريك / شريكة الحياة والإحسان له / لها في حياته، هو سر السعادة في حياتهما والرضى بعد نزول القضاء.
وأخيراً لا أملك أمام قضاء الرحمن وقدره، وبعد أن أعدت إلى ربي أمانته، إلاّ أن أقول: اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك، أنّ بدرية بنت صالح السلطان، قد أحسنت إليّ وأكرمتني وآنست وحشتي، اللهم فأغفر لها وأكرمها وأسعدها وأحسن إليها وآنس وحشتها وضيفها رحمتك، فأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.