د. جاسر الحربش
اقتباس: العقل البشري مجبر على التعامل مع قدره المجبول عليه، الناتج عن التشابك المستمر بين مسالكه وعن كون العقل يتعرض باستمرار لإزعاجات التساؤلات ولكن لا يستطيع صدها والهروب منها، فهي مركبة بداخله من خلال طبيعة العقل نفسه، رغم إدراك العقل تعذر الوصول إلى إجابات نهائية في عمر الإنسان الفرد القصير، لأن الإجابات النهائية أكبر كثيرا ً من كل القدرات التي يمتلكها العقل نفسه. الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت.
حتى أواسط القرن الخامس عشر الميلادي كان التفكير في أوروبا خارج ما تسمح به التعليمات الكنسية من المحرمات، بحجة أن التفكير العميق يعتبر تجديفا ً وهرطقة. بدأت النهضة الحضارية الأوروبية أولا ً بانعتاق العقل من القيود على قدراته التفكيرية. لم يحقق الفكر الأوروبي صناعة الآلة البخارية والعدسات المكبرة واكتشاف الطاقات الكهربائية والمغناطيسية أولا ً ومنذ البداية، بل كانت البداية هي الحصول على حرية التفكير، وهذه قادت إلى عودة الغوص العميق في قدرات العقل، أي العلوم الفلسفية، فتفرعت منها لاحقا ً كل الأفكار والإنجازات الصناعية والحقوقية والفنية وهندسة المواصلات والعمران. كانت الفلسفة هي الأم المنجبة للأفكار التي قامت عليها الإنجازات الحضارية الأوروبية التي ما زال العالم كله يقلدها للحصول على الرخاء والتقدم الذي ينعم به الغرب.
من الأسس البنيوية للفكر الفلسفي نقطة الانطلاق التالية: لا يمكن لأحد يمتلك عقلا ً عاملا ً أن يعبر الحياة بكاملها دون توجيه الأسئلة لنفسه. الحاجة إلى ذلك مبررة تماما، بسبب الحاجة الماسة وتوجب وحب المعرفة الغريزي، لأن ذلك موجود داخل تركيبة العقل السليم. توجيه الأسئلة والبحث عن إجابات وجدا منذ بداية الحياة البشرية لمحاولة كسب الصراع مع عوامل الفناء.
الكلام أعلاه اقتباس من مقدمة كتاب للفلسفة كمدخل مبسط إلى فهم مقاصد العلوم الفلسفية.
في الآونة الأخيرة بدأت مساحة الرأي المحلية تسمح قليلا ً بدخول الآراء المتعاطفة مع الحاجة إلى التعمق الفلسفي في الحياة والكون والبدايات والمآلات. لفت انتباهي في الأسابيع الأخيرة مقالان لكاتبين سعوديين لامعين، الدكتور خالد الدخيل والدكتور إبراهيم المطرودي، وكلاهما مشهود له بسعة الاطلاع والموضوعية والعقل المستنير.
كتب الدكتور خالد الدخيل حلقتين في صحيفة الحياة عن مكان الفلسفة كعلم يقع بين العلم الديني الإيماني اليقيني والعلم المادي التجريبي الخاضع للقياس والبراهين، وذلك لأن العلوم الفلسفية تتعرض للماورائيات والغيبيات مثلما تتعرض أيضا ً للنظريات العلمية وتطبيقاتها وتأثيراتها في الاتجاهين، السلبي والإيجابي، الروحي والجسدي للإنسان. فهمت واقتنعت من قراءة الدكتور الدخيل أن العلوم الفلسفية لا تتعارض مع هذا ولا ذاك، بل تعمق الإدراك والفهم الأعمق والضروري في الحالتين، وقد كنت من قبل مقتنعا ً بذلك فزادتني قراءة الدكتور الدخيل قناعة.
الدكتور إبراهيم المطرودي تعرض بدوره في مقالتين في جريدة الرياض للاضطهاد والنفي الذين تعرضت لهما الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية بعد الهجوم الكاسح الذي شنه الشيخ (والفيلسوف سابقا ً) أبو حامد الغزالي، مستفيدا ً في إنجاح ضربته من الظرف السياسي والاجتماعي المرتبك في القرن السادس الهجري.
أعود الآن إلى الاقتباس السابق من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، المعتبر من أكبر أو أكبر فلاسفة التنوير في الحضارة الغربية. كانت يجزم بأن العقل البشري غير المعطل لسبب من الأسباب مجبول بتكوينه الذي خلقه الله عليه، على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات، ما دام صاحب هذا العقل على قيد الحياة. بمعنى آخر لا يمكن كبت أو تعطيل هذه الجبلة العقلية إلا بالإكراه، كالتهديد والإسكات بطريقة سلطوية لا يستطيع صاحب العقل دفعها.
إذا اعترفنا بأن الإنجازات العلمية الغربية تقود العالم من حيث يريد أو لا يريد، إلى ما تريد هي، يجب علينا أن نعرف القدر الذي تعطيه هذه الحضارة للعلوم الفلسفية. إنهم يسمونها الأم المنجبة للتفكير أو أم العلوم، وبدونها لا يوجد علم سوى علم الإيمان اليقيني، وهذا وحي إلهي وليس إنجازا ً بشريا ً وصل إلى البشر عن طريق الأنبياء والرسل.
أذكر مرة أخرى بقول كانت إن العقل مجبول بتركيبته الخلقية على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات. فلاسفة الحضارة الإسلامية تم إخفائهم عن التبصر العميق في الإيمان والحياة والأخلاق وبالتالي في نتائج الفكر القياسي التجريبي، وعندما غيبوا غاب معهم التجديد الفكري وأصبحت أحوال المسلمين ما نرى لا ما نسمع.
أختتم مقالي باقتباس آخر: إن المضاد للفكرة الصائبة هي الفكرة الخاطئة ولكن المضاد لمفهوم فكري عميق هو فقط مفهوم فكري عميق آخر.
الفيزيائي والفيلسوف نيلز نيبور
أسمح لنفسي بالتفاؤل بعودة الدراسات الفلسفية إلى الديار العربية بعد طول الغياب في المنفى.