د. جاسر الحربش
عندما تهاجم الكواسر قطعان الفرائس تحاول تشتيتها كخطوة أولى، لتصطاد الأفراد الأبعد عن القطيع. محاولة الاستفراد بتجزئة الكل هي السياسة المطبقة على الدول العربية من قبل القوى الإقليمية والعظمى، وبسببها سقطت العراق وسوريا وليبيا وكادت البحرين واليمن أن تلاقيان نفس المصير. من أوضح مؤشرات القابلية للاستفراد ظاهرة تدويل القضايا العربية البينية. ما إن تتعقد قضية بين دولتين عربيتين جارتين حتى تحال إلى التدويل، ونادرا ً ما يكون لطرفي القضية رأي في النتائج. الاستثناء الوحيد كان اتفاق الطائف لإنهاء حرب لبنان الأهلية.
الاعتراف بواقع القوة والضعف يقول إن كل دولة أجنبية بما في ذلك الإقليمية تشعر بأنها أقوى من الدولة العربية التي تتقاسم معها الجوار والحدود. اندماج الجوارات العربية، ولو جزئيا ً في تنسيق دفاعي واقتصادي، هذا هو ما تجتهد دول الجوار غير العربية على منعه لأطول فترة ممكنه. هي تعرف أن مجرد التنسيق الدفاعي والاقتصادي بين كل دولتين عربيتين أو ثلاث، وليس الذوبان الوحدوي، كفيل بأن يقلب المعادلة فيتحول الاستقواء على العرب إلى خوف منهم.
الحكومات العربية كل واحدة على حده تعرف أيضا ً النتيجة الإيجابية لهذه المعادلة، لكن لديها معها مشكلة. انعدام الثقة بين الحكومات العربية وتفصيل الأمن الخاص على مقاييس كل حكومة قطرية أوجد تحالفات مع قوى خارج الحيز الجغرافي العربي، وألغى الالتزام بالأمن العربي الموحد من الحسابات. هذه الحالة بالضبط هي التهديد الحقيقي للأمن العربي القطري والشامل.
لم يعد شذوذا أو غريبا ً أن نجد كل دولة عربية قطرية تتمتع بعلاقات أوثق مع الدولة العربية الأبعد عنها جغرافيا، مقابل علاقة مأزومة مع الدولة العربية في جوارها المباشر. الأسوأ من ذلك أن تكون لكل دولة قطرية مع دول أجنبية علاقات أفضل من أي دولة عربية قريبة أو بعيدة. هذه هي مشكلة الحكومات العربية مع مفهوم الأمن العربي الشامل، وهي نقطة الضعف القاتلة في المستقبل للجميع.
لو سألت أي عربي كفرد، وخصوصا ً حين تتعرف عليه في دولة أجنبية كمغترب مؤقت أو دائم، عن مصادر هذا التقزم العربي أمام الأجانب، لرد عليك بالأسباب المذكورة أعلاه، لأنه هناك يقول ما يعتقد دون خوف أو مجاملة للتيار الاجتماعي الذي يسبح فيه. تختلف الإجابة عند توجيه السؤال كاستجواب شعبي في أي بلد عربي، حينئذ يأتي الجواب الجمعي مفصلا ً على الحالة الإعلامية السائدة في الدولة التي يتم فيها الإستجواب. هذا الوضع يقود إلى التساؤل عن سبب الثقة بالمتانة والحصانة الأمنية الداخلية وشعور كل مجتمع قطري عربي على حده بأمن أجياله القادمة أمام التهديدات الخارجية، سواء ً من دول الجوار الأجنبي أو عبر البحار والسماوات.
حاليا، وليس في هذا الزعم نية نفاق أو اتقاء، لا يوجد أي بذرة جنينية واعدة بتكامل دفاعي واقتصادي عربي سوى بين ثلاث أو أربع دول في مجلس التعاون العربي الخليجي. لم تصل البذرة درجة النمو والإثمار إلا بعد التعرض المباشر لتهديد أجنبي معلن يهدد كل مكون على حده. لم يكن من المستغرب مع وجود حالات الاستفراد السائدة أن ينطلق التهديد الأجنبي من اليمن أي من دولة عربية مجاورة. رغم الوضوح المعلن في البرنامج التوسعي الإيراني لم تتجرأ إيران على الإصطدام المباشر مع التكتل الدفاعي لمجلس التعاون الخليجي، وفضلت الاستفادة من حالة التفكك الأمني الموجودة في اليمن.
ببساطة، لو لم يكن هناك عداء قيادات / حكومات بين العراق وسوريا، بين مصر والسودان، بين دول الخليج والحكومات اليمنية الفاسدة، لما حصل التفكك الهائل في العراق وسوريا ولبنان والسودان واليمن. كمثال محتمل، خلافات الجزائر والمغرب تجعلهما في حالة ضعف أمام دول شمال البحر الأبيض المتوسط.
لكن ماهو السبب الذي يجعل هذا الاستفراد بالأمن، بمفهومه المفصل على قياس الحكومات القطرية يستمر، رغم وضوح فشله في تأمين المستقبل الشامل لكل العرب ؟. العامل الأهم هو كون المجتمعات العربية الحالية تتقبل الواقع البائس المفروض عليها بسبب الحرص على ما تبقى لألَّا يضيع، وبسبب الخوف من القبضة الأمنية القطرية في الداخل، وبالعيش مع بقية أمل في صلاح الأحوال دون خضات اجتماعية يستفيد منها الإرهاب العميل ليحرق الأخضر واليابس.
الاستنتاج: الاكتفاء بالأمن القطري لا يفي بالغرض، ومحاولات التقويض بطريقة الاستفراد سوف تستمر حتى تقتنع الحكومات العربية بضرورة التكامل الدفاعي والاقتصادي قبل أن يبتلع الطوفان الجميع.