د. خيرية السقاف
عمره خمسة وتسعون عاما, جالس على حافة البحر، يتحدث لأحفاده يقول لهم :
عرَّفونا أن الإنسان يخطئ..
لكن ليس عليه أن يتمادى في الخطأ، ولا يتعمَّده..
لأنهم شرحوا لنا بإسهاب أن الإنسان ليس كاملا، ولا مثاليا، ولا مطهرا من الزلل..!
لكنهم أكدوا لنا أنه يمكن أن يتطهر بالامتناع عن التمادي، وعن الإيغال، وعن الإصرار..
هزوا شجرة الخشية في نفوسنا بعد إثمارها، فتساقط في عمقها اليقين في الله..
عرفونا به، أنه وحده تعالى الكامل جلَّت له العصمة الذي لا يخطئ أبدا فوقرت هذه الحقيقة في كموننا..
ثم مسحوا على قطيفة وجداننا بندى رحمته وقالوا: بيده الغفران رب الكون، والعقول، والنفوس، والأبدان..
نهر عفوه لا ينضب ولا ينفد..
ورسموا لنا الطريق إليه
أقاموا لنا منابر النور نهتدي لنبعه فبعذبه يكون التطهير..
لم يبسطوا لنا المقاصل، ولا نصبوا لنا المشانق، ولم يفرِّغوا شعورنا من الاطمئنان،
ولا صبوا علينا ماء اليأس الحارقة!!..
فأحببنا الله، وعرفنا منابع النهر..
لا خطأ، إذن لا كذب، لا نية سوء، البرهان وضوح، الصدق دليل..،
إلا اللمم الذي لا يهدم، لا يميت، لا ينقض، لا ينخر، لا يجرح، لا يسلب، لا يضلل، لا يحرق!!
حتى الحلوى لا نأخذها من مخبئها ليست لنا، وإن فعلنا سهوا علينا أن نعترف ، نستأذن أمهاتنا قبل وضعها في أفواهنا..!!
قالوا لنا الصدق ينجي، والكذب يهلك،
وإن مراسم النجاة تقام بجد الصدق، وتبلغ مضامير الاغتسال بصدق العزم..
وتنزل في كمون اليقين بسكينة سلامها..
علمونا كيف نكون بيض القلوب كالجباه التي أحسن الله خلقها،
لم يتقاعسوا يحدون جوارنا كي لا نتعثر في كذبة صغيرة، ولا نتردى في حفرة كبيرة حتى اشتدت لدونة عظامنا.. وتركونا بعد أن اطمأنوا على ذخيرتنا..!!
حين أكدوا لنا أن الكبار لا يكذبون
وأن كذب الصغار جهلا، وإن كذب الكبار فرذيلة..!
كبرنا والمدى في عيوننا ناصع كثلج القطب
كبرنا وكل كبير قد وغر في صدورنا أنه حين يقول، يقول صدقا
كبرنا والطمي يتفاقم..
اختلط في زمنكم ميزان الصدق، والكذب
وسعت كفتاه، وخفَّت أحجام مقاييسه كأوراق الشجر في الخريف..!!
الكبار الآن في زمنكم يكذبون بحجم كبرهم..
والصغار يتبعونهم لا من يحدو جوارهم فيقتفون إلا الندرة..!!
ومعهم تكبر أكاذيبهم، تصلب مع عظامهم، تتفرع مع أطوالهم،
توغل في أعماق مواطن أقدامهم..
لم تعد حلوى من خزائن أمهاتهم..
الناس تكذب الآن كثيرا،
صغيرٌ يتوارى بأخطائه الصغيرة
وكبيرٌ يفتك بأخطائه الكبيرة..!!
ساسة القوى العظمى يكذبون، والدبلوماسيون، والمعلمون، والاقتصاديون، والتجار، والأطباء، والأصدقاء..
الشواهد مآسي البشرية، شتات الشعوب، المتعلمون لم يتعلموا، السلام لا يعم، الحقوق تضيع، السرقات تنتشر، المرضى يستدينون ، الأصدقاء يخدعون.. و..و
الضحايا يتساقطون..!!
زمن تبدل في لمحة ، لكنها استغرقت..
بيننا وبينكم ما بين اللمم، والإسراف..!!