د. خيرية السقاف
يبدو أن المؤسسات الأهلية التي تستقدم العمالة للنظافة وللبناء، وللحفر، وللردم، وللصيانة، تحتاج إلى ضوابط أكثر صرامة، وأنفذ عقوبة..
أذكر أنني واحدة ممن كتب عن الكادحين الذين نلتقيهم في الطرقات، وعند الإشارات المرورية، المكدسين في العربات كالماشية،بملابسهم الرثة، وعيونهم النعسة، وكتوفهم المثقلة، تحملهم الناقلات الكبيرة مختلفة الأسطحة في الأماسي الباردة القارسة، وفي الصباحات الغائمة الصقيعية، وفي الظهيرة الملتهبة الحارقة في شوارع المدن يمزق منظرهم القلوب، ونحن نذهب باكراً للعمل، ونعود عصراً، أو عند الغروب فنشاهدهم وقد بهتت وجوههم، وكلحت تقاطيعهم، فلا نلمح في تعامل كفلائهم معهم مما نرى تلك القيم الجميلة في مواثيق الإنسانية، وكثيراً ما أزعجت المسؤولين بأرقام لوحات العربات الناقلة، وبأسماء الشركات الكفيلة المسجلة على جوانب الحافلات، حين تنبئ وسائل نقلهم من وإلى مقارهم، وأعمالهم عن أمور كثيرة؛ منها إهمال العناية بصحتهم، ونظافتهم، وغذائهم، وإنسانيتهم وهم كالجراد في الأقفاص، فكيف إذن تكون المساكن التي تخصص لمعاشهم الذي يبدو أنه ساعات قليلة من الليل فقط..؟!
كان يهمني أمرهم، ولا يزال، وكثيراً ما توقفت جوار من يمشي راجلا منهم، أو متوقفة عربته لسبب ما، ويا لحزني حين أصغي لمن توقفت إليه فأجد كثيراً في الظهيرة القائظة من لا يؤمن لهم كفلاؤهم قطرة ماء تقيهم عطش الاحتراق، وكثيراً ما عرفت أن مرتباتهم هزيلة لا تكاد تفي بأدنى حاجات الكفاية الإنسانية، وبأنهم يمرضون ولا من يمنحهم أياما للراحة، أو علاجا وافيا للحالة، كأنهم آلات يراد منها بضغطة زر أن تدور، وبأخرى أن تتوقف..،
ينسون لحمهم، وشحمهم، وروحا تسري في عروقهم، وحسا ينضوي في داخلهم، وقلوبا تنبض فتبكي، وتنبض فتضحك..!
والعامل البسيط الذي لا حيلة له إن لم يكن نصيبه العمل مع من يخشى الله ويتقيه فيه، فهو بين مطرقة العمل، وسندان الجور..!!
وقصصهم ملاحم إن تفرغ لها مبدع إنسان..!
وكثيراً ما قرأنا عن ضرب الكفلاء لمن يعملون معهم، وتكتظ مجالس الفض في قضايا العمال بمآسي قد يخرج منها الكفيل كما تخرج الشعرة من العجين، ويعود العامل بخفي حنين لوطنه ما كسب أكثر من التعب، والإهانة، وقلة الاعتبار..!
هذا الحديث ليس جزافا، وإنما تشهد عليه كل الشوارع التي تعبر فجرا فيها تلك الحافلات التي تقل العمالة وهي تئن بهم، كما تئن ذاتها من عدم صيانتها..!!
كذلك تشهد تلك المساكن التي يقطنها من تتدنى مرتبة عمله إلى منزلة «عامل» في المرافق، والشؤون الخدمية المختلفة ممن لا يزيد، أو لم يكن يرتفع سقف مرتبه عن نصف الألف وأدنى..!!
ناهيك عمن لا يتسلم راتبه منهم، وعمن يحرم من العودة لبلاده في موعد إجازته، وعمن لا يجد من يصغي من الكفلاء لشكوته، وعمن يزج في قوقعة غربته وحيدا لا من يؤنسه إلا دموعه، وندمه، وحسرته....
أجل هو ذا حال أغلبية هذه الفئة من العمال في مجتمعنا.. وقد يلحق بهم السائقون، وخادمات البيوت بنسب تتفاوت، وقضايا تختلف، أو تتفق..!!
آخر الوقائع عن هذا ما نشرته صحيفة مكة عن واقع سكن عمال النظافة في عسير، والصور وحدها الشاهد الذي لا يكذب الحقيقة..
إضافة إلى العامل الذي ضربه أحد رؤسائه في مشروع توسعة الحرم المكي الشريف ..
كما أن المصحات فيها من الشواهد، وأقسام الشرط، وسقوف الأبنية مما يئن تحتها كل عامل يعود لفراشه موجوعاً، جائعاً، مكلوماً، وحيداً، مهاناً، بائساً.
ما لم تُفعَّل العقوبات، وتنبلج الشروط، والاتفاقات، وتنفذ العقود، وتراقب التطبيقات بجدية والتزام، فإن الكادحين يبقون في الذمم..!
ولأن وزارة العمل الآن تعلن أنها تشمِّر عن قشع لثام الحق الفردي لكل عامل، في منأى عن ضعفه فردا، أمام قوة كفلائه مؤسسات!!
فلترفع للشمس نصاعة الأمانة فيهم، دون تأخير.