د. خيرية السقاف
من ضمن المتغيّرات التي تشهدها الحياة، ويتفاقم معها انفراط حِزَم القيم التي كانت تقوم عليها جميع الأُسس البنائية لنعيم التمتُّع بالطمأنينة في هذه الحياة، أن فقدت هذه الطمأنينة، ولم تَعُد هناك متعة للحياة بشكل سلس وتلقائي.
لقد أدى هذا الانفراط لهذه الحِزَم القيمية إلى قلق استعمر جوف الناس، ومكَّن من اضطراب إحساسهم بالأمان النفسي، ومن ثم فقدهم الثقة في بعضهم، وفي أفكار بعضهم، بل في نوايا بعضهم الآخر..
وأنشأ بينهم مسلكاً جديداً يقوم على الحذر والحيطة والتوجُّس..
وبدأ الناس فيما بينهم يشكِّلون، ويؤسِّسون، ويعمِّقون ثقافة الخوف من الآخر بشكل لم يَعُد يقتصر على أفراد ما، أو أساليب تنشئة تخص، بل عمّ هذا السلوك عن انتشاره ظهرت على السطح هذه الثقافة، وغدا الأخذ بها سلوكاً قصدياً أوَّلياً في قائمة ما يحتاج إليه المرء لتمكين الوعي به في الناس بكل فئآتهم العمرية..
ولازمت مفردات هذه الثقافة الطارئ وجوبُها كل الأفواه وهي تتبادل القول لتوجيه الفعل بأن يرقبوا، يتنبهوا، يحذروا، يخافوا، يتّقوا، يتجنّبوا، يتخيّروا، لا يثقوا للوهلة الأولى، لا يركنوا لأحد أو لأمر إلا بعد فحص، و.. و.. كل ما في قائمة النّهي، والتحذير..
حدث هذا ويحدث نتيجة مخلّفات تراكَم َبها الأقطابُ الأربعة في الناس: الدّعة، وعدم الجدِّية في التنشئة، وهشاشة الفكر، وضحالة المعرفة ..
اجتمع على الفرد هذا التراكم، في وقت هجم عليه كثيف السّيل الذي هدرت به تقنية التواصل، والنشر الإلكتروني، ووسائل النقل فائقة الإمكانات، ولم يستطع أن يقاومها من لا زاد له، ولا حصيلة عنده يكافح بها الهشّ، والضّحل، والفارغ، والأعوج، والخاطئ، وعديم الفائدة، وسيئ النية، وفاسد الطّوية مما يتلقّى..!
إنّ العناوين المضلِّلة التي درج الصغير، والكبير على أن يركن إليها بعد الهجمة الإلكترونية المبهرة، وخضوعه منفرداً مع شاشة ليست تجمعه بإنسان العالم وأراضيه، وسماواته، ومنجزاته، ونجاحاته، بل تغلغلت لتفاصيل سراديب مظلمة أيضاً، أخذت به لسدة المواجهة مع غثاء ما تفرزه الحياة من حوله من الغسلين، والقرف الذي آلت إليه وقائع ما حوله .. وأجبرته على اتخاذ ثقافة الحذر نجعاً لمسالكه..
ذلك لأنّ انفراط القيم أدى إلى تكوين بدائل لكنها مضلِّلة للحد الذي انكشفت سُتُره عنها...
وإنها لمحزنة هذه النتائج في حياة الناس إنْ لم يتصدّوا لها عزماً..
لأنّ هذه النتائج لم تَعُد تمنحهم في هذه الحياة نوافذ للشذى
ولا قواعد للاطمئنان..
ولأنّ الناس الآن تتبادل مع أنفسها الحسرة لانفراط حِزَم القيم،
والندم من نتائج أقطاب التفريط ..
فلعلها أن تنهض من جديد تحمل المحراث، وتسعى!!
فالبقاء ليس للنائمين، ولا للمتقاعسين،
ليس للحذرين بلا وعي، ولا للمفرطين في قدرة..
ليس للمستسلمين لمحبطات المتغيّرات..
ولا للذين لا يكافحون ما يحذرون!!