رقية الهويريني
في اختبار عملي أجراه متخصص بعلم الاجتماع على فتاة دعاها لفحص النظر المجاني في عيادة العيون؛ حضرت الفتاة للعيادة، فاستقبلتها الموظفة وأدخلتها في غرفة الانتظار التي كان فيها عشرة أشخاص بمختلف الأعمار. وبعد جلوسها على أحد المقاعد صدر رنين جرس بصوت منخفض، فوقف الحضور لمدة دقيقة ثم عاودوا الجلوس! ثم رن الجرس مرة أخرى فقام الأشخاص ثم جلسوا، وحين رن الجرس للمرة الثالثة اضطرت الفتاة لمجاراتهم في النهوض حيث لمحت من أحدهم امتعاضًا من جلوسها! وبعدها تكرر الجرس في الرنين يتبعه وقوف ثم جلوس جميع الحضور بمن فيهم الفتاة!
تم المناداة على الأشخاص واحدًا تلو الآخر، ومازال الجرس يرن وحالة قيام الحاضرين وجلوسهم مستمرة حتى لم يبق غيرها. وحينما رن الجرس وقفت لوحدها ثم جلست تطبيقًا للقانون الجمعي برغم عدم وجود المجموعة. ودخل شخص جديد للعيادة وشاهدها باستغراب تقف حين يرن الجرس، وعند سؤالها عن سبب نهوضها قالت له: لا أدرك سببًا لذلك غير أنني حضرت ووجدت الناس ينهضون عند صدور الصوت فاعتقدت بضرورة ذلك! لذلك اضطر الرجل للوقوف عند صدور الصوت بعد المرة الثانية. وبعد حضور عدة أشخاص أصبحوا يقفون كلهم عند سماع رنين الجرس، وكأن ما بدأ عشوائيًا صار عادة اجتماعية لجميع الحضور!
بعد نهاية التجربة ذكرت الفتاة أن سلوكها الغريب مع المجموعة كان خشية من استبعادها أو نبذها! وأثبت المختص في علم الاجتماع أن ذلك نتيجة العقل اللا واعي الذي سيتبع سلوك الجماعة حتى يكون اجتماعيًا، فهو يقوم تلقائيًا بتغيير أسلوب التفكير.
وفي حالة الامتثال الجماعي يظهر مدى سطوة العقل الجمعي على الفرد مما يعطل كامل تفكيره وذكائه، خوفًا من الانفراد والنبذ وعدم تقبّل الجماعة له.
يفسر جوستاف لوبون مؤلف «سيكولوجية الجماهير» ذلك، باختلاف العقل الفردي عن العقل الجمعي في التفكير، فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية، ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي يتصرف بصورة سلبية. ويشمل العقل الجمعي مختلف الفئات العقلية على مسائل يكون للغالبية عامة رأيها الغريزي فيها تبعًا لتوجهات الجماعة ومصالحها وإيديولوجيتها وليس منطقيتها، وهنا لا سلطان للعقل على الغريزة الجمعية، وللأسف أن الكفاءات العقلية للبشر وفرديتهم الذاتية تنمحي وتذوب في الروح الجماعية، وهكذا يذوب المختلف في المؤتلف وتسيطر الصفات اللا واعية.
وعند سيادة سلوك القطيع الجمعي يصبح المرء محكومًا بأفكار جمعية جاهزة يستمدها من المجموعة وينصرف التأييد لها مهما كانت سلبية أفكارها ورداءة سلوكها وفساد معتقدها ووحشية تصرفاتها!
والمؤلم حين ترنو لكسر الأغلال لتعيش بفكر تنويري يحترم الاختلاف ويوقر التعددية فسيواجهك مجتمع يحاصرك ليحيلك نسخة مكررة من أفراده ويجعلك تفكر مثلهم!!