د. فوزية البكر
أزمة المهاجرين التي اجتاحت أوروبا وبالأخص هذا الشهر جعلت الجميع ساسة وقياديين محليين ومواطنين ومفكرين يراجعون منظومة القيم الإنسانية التي صنعت تاريخ أوروبا عبر قرون. لم نعتد أن يتكلم الساسة مثل الفلاسفة والمفكرين القدماء كما فعلت انجيلا ميركل رئيسة وزراء ألمانيا
ورئيس وزراء النمسا فيرنر فايمن في مؤتمرهما الصحفي الأخير الذي عقد بتاريخ 15 سبتمبر 2015 حيث عبرا فيه عن أملهما بأن تلتزم أوروبا بأخلاقها الإنسانية التي بنتها عبر التاريخ، وذلك بتفهم مشكلة المهاجرين الفارين من بلدانهم بسبب الحروب والعنف السياسي وذلك بتحمل بعض المسئولية تجاه هؤلاء المهاجرين وقبول بعضهم في بلدانهم إضافة إلى الكرم غير المسبوق والتعامل الإنساني الذي أبدته هذه الدول إضافة الى السويد المعروفة بتعاملها الإنساني مع العرب ودعمها الكبير لقيام دولة فلسطينية ورفعها منذ العام 2011 مستوى تمثيل فلسطين فيها من مستوى البعثة الى مستوى الدولة ممثلة بسفارة كاملة في استوكلم عاصمة السويد.
يجب فعلا ان نقف احتراما لهذا الموقف التاريخي فالكثير من الساسة في كل من المانيا والنمسا هم من اليهود الذين ربما يكون لهم عداوة تاريخية مع العرب والمسلمين إضافة الى كل الفظائع التي لا تنفك الجماعات الإسلامية المتطرفة عن القيام بها اليوم بما يشوه صورة الإسلام والمسلمين ويبني توجهات عنصرية ضدنا، لكن أثبتت أوروبا أنها فعلاً ورغم صراع الايدلوجيا سواء بين الإسلام او المسيحية واليهودية أو بين الشرق والغرب كحضارات: أثبتت أوروبا أنها تمتلك قيما حضارية وإنسانية استمدتها من أهوال الحروب والاضطهاد العنصري والعرقي والديني الذي مرت به طوائف كثر داخلها منذ فترة القرون الوسطى وعبر فترات التنوير في القرون السابع والثامن والتاسع عشر الى منتصف القرن العشرين، فبسبب النازية تم تهجير الملايين من الالمان خارج وطنهم وتم اضطهاد الناس لأسباب عرقية ودينية وها هي ألمانيا اليوم تحاول التكفير عن تاريخها باحتضان أقليات عرقية أخرى لا تمتلك معها أي مشترك عرقي أو ديني أو حضاري بل على العكس: علاقة الشرق بالغرب تاريخيا وعلاقة الإسلام بباقي الأديان في وقتنا الحاضر لا يبشر بالخير، لكن أوروبا تبقى أوروبا (القيم الإنسانية) عدا دولة المجر التي أثبتت انها من أسوأ دول الاتحاد الأوروبي وأكثرها عنصرية وتطرفاً وقسوة، ولن ننسى ما حيينا الصحفية المجرية العنصرية التي عرقلت بقدمها الأب السوري وهو يحمل ابنه حين كان يحاول عبور حدودها لكن إرادة الله كتبت أن تكون هذه السقطة مفتاح النجاة لهذا الأب البائس، فما ان تناقلت وكالات الأبناء الصورة حتى تعرف على الرجل عشاق الكرة الإسبان حيث كان الرجل يعمل كمدرب كرة لأحد الفرق الرياضية في سوريا، فذهبوا للبحث عنه وتقديم عرض عمل له يتيح له البقاء في اسبانيا، كما تم ادخال ابنه ضمن فرق أشبالهم، في حين لقيت المصورة العنصرية ما تستحقه من عقاب بفضحها عالمياً وفصلها من عملها كمصورة لإحدى الصحف المجرية.
طبعا دول بحجم بريطانيا وفرنسا قدمت القليل جدا في هذه الازمة باحتضان عشرات الالاف فقط بما لا يتوازى مع قوتهما وتاريخهما الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط لكن هذا الموقف يظل افضل من موقفي الدولتين العظيمتين : الولايات المتحدة وروسيا اللتين تكتفيان حاليا بإشعال النار في هذا الشرق المسكين كجزء من لعبة استعراض القوى التي دمرتنا والتي ربما تؤدي للأسف في النهاية الى تقسيم سوريا.
أزمة المهاجرين الحالية تثير أسئلة كثيرة داخل أوروبا نفسها مثل: هل ستتمكن هذه الآلاف المؤلفة من الاندماج فعلاً في المجتمعات التي ستستوطن فيها بتعلم لغتها وتبني أفكارها وتعلم نظمها والايمان بها؟ قوانين الهجرة الحالية في بعض بلدان أوروبا قد تكون عائقاً قوياً مثل تلك التي في ألمانيا والتي تمنع التحاق المهاجر بأي عمل الا بعد مضي ثلاثة شهور من تواجده في معسكرات اللاجئين، كما تمنعه حتى من الالتحاق بمعاهد تعلم اللغة الألمانية الا بعد إنجاز أوراقه الرسمية التي قد تستغرق سنوات فتجد الطبيب والمهندس واللحام السوريين جنباً إلى جنب في هذه المعسكرات يزجون الوقت في انتظار معاملاتهم، رغم جهود بعض الهيئات التطوعية في مساعدتهم لإنهاء هذه الإجراءات لكن الروتين يضيع سنوات من عمر هؤلاء وأعمار أبنائهم واستقرارهم.
ورغم أن المهاجرين الحاليين الى أوروبا لن يمثلوا في نهاية الامر الا أقل من 1% من حجم سكان أوروبا مقارنة مثلاً بوجودهم في بلد صغير مجاور كلبنان، حيث يمثلون الان أكثر من 40% من سكانه ومن ثم فرغم المشكلات الانية التي ستواجه هذه البلدان في التعامل مع المهاجرين وكيفية توفير الموارد اللازمة لإسكانهم وتعليمهم وتهيئتهم كمقيمين الا ان هناك أسئلة أكثر تعقيدا ستطرح داخل مجتمعات أوروبا عن مستقبل هؤلاء المهاجرين وحجم تأثيرهم ديموغرافيا وثقافياً فيها بعد -مثلاً- عشرين سنة. ولنأخذ المهاجرين الحاليين وأغلبهم مسلمون شيعة وسنة، فماذا سيحدث لمستقبل هذه البلدان بعد أن يكبر أطفال المهاجرين ويصبحوا مواطنين داخلها ولهم الحق في الانتخابات وقيادة البلاد وربما تغيير القوانين العلمانية والديمقراطية التي وصلت لها هذه البلدان الأوروبية بعد تاريخ طويل من النضال؟ ماذا عن التوازنات العرقية والدينية داخل أوروبا المسيحية أساساً؟ أسئلة فلسفية كثيرة يطرحها الموقف الفلسفي والإنساني لأوروبا الإنسانية.