د. جاسر الحربش
نستطيع توجيه تهمة التقصير إلى حكومتنا في أشياء كثيرة، ولكن التقصير في مواسم الحج ليس منها. عندما يجتمع عندك في أسبوع واحد ثلاثة ملايين إنسان من شتى بقاع الأرض، بلغات مختلفة وأعمار متفاوتة وثقافات دينية شعبية ومستوى أمية يشمل على الأقل نصف هذه الملايين الثلاثة، وتضيف هؤلاء إلى السكان في حيز جغرافي ضيق ثم تحاول بكل ما أوتيت من حسن نية وإمكانيات تنظيم هذه الجموع في مسار واحد وأن تخرج في نهاية هذا الأسبوع بنفس العدد الذي دخلت به، إن تخيلت الخروج بعدد صفري من الحوادث المميتة والإصابات، تكون واهماً ومتفائلاً بما يتجاوز حدود الحسابات الرياضية التي تدخل اللامؤكد حتى في أوثق الحسابات العلمية دقة ومعيارية.
مناسك الحج بذاتها منظمة بدقة إلهية، من الإحرام في الميقات حتى طواف الوداع، ولكن هذا النظام وحي إلهي لا دخل للبشر فيه. البشر هم الذين يرتكبون الأخطاء، وعليهم تحمل النتائج والتعلم من التجارب. في احتفال موسيقي بمدينة دويسبورج الألمانية عام 2010م، توفي أثناء تدافع الجماهير واحد وعشرون شاباً وشابةً وكان عدد الحضور في حدود مائتي ألف شخص. في ملعب لينين بموسكو عام 1982م، توفي ثلاث مائة وأربعين متفرجاً في تدافع جماهيري، ولم يكن الحضور يتعدى بضع عشرات الألوف من البشر. في ديسمبر 1913م، مات ثلاثة وسبعون شخصاً من بين خمسة آلاف كانوا في اجتماع عمل عندما صرخ أحدهم النيران النيران، فأصيب الناس بالرعب وداسوا على بعضهم وكان ذلك في القاعة الإيطالية بالولايات المتحدة الأمريكية. في ملعب هيلسبورو - ليفربول البريطانية تداخلت جماهير المتفرجين عام 1989م، فمات ستة وتسعون شخصاً أغلبهم من الشباب الأقوياء. في مدينة بنومبنه - كمبوديا وأثناء احتفال جماهيري بعيد الماء عام 2010م، توفي أربعمائة وخمسة وستون شخصاً، ولم يكن العدد الإجمالي للحضور يتعدى عشرة آلاف شخص.
هذه مجرد أمثلة حديثة نسبياً على ما يتوقع حدوثه من كوارث أثناء حدوث الفوضى الجماهيرية. المفارقة في التعامل العقلاني العلمي مقابل التوظيف السياسي والعاطفي للكوارث تتلخص في أن الخطأ القاتل في الممارسات الدنيوية وما تحدثه فوضى الجماهير، مثلما يحصل تكراراً في المباريات الرياضية والأعراس والتجمعات الاحتفالية والتظاهرات الجماهيرية، سرعان ما يختفي من التغطيات الإعلامية المسيسة وثرثرات المجالس، ليستبدل به الكلام عن حدث مأساوي آخر لا يفصل بينه وبين سابقه سوى ساعات أو أيام. العقل البشري، وخصوصاً المتربص لاصطياد الصدف والشائعات، لا يعطي للكوارث التي تحدث يومياً نفس الاهتمام الذي يعطيه للكوارث الأكثر احتمالية عندما تحدث في المناسبات الدينية، وخصوصاً تلك المناسبات المضغوطة بكثافة داخل عوامل الوقت والجغرافيا والأعداد الكبيرة والأعمار واللغات والثقافات. الإنسان بطبعه لا يبدي نفس القدرة على اللامبالاة التي يظهرها لوفاة آلاف القتلى ببراميل المتفجرات لقتلهم عمداً وبتخطيط مسبق، أو لسقوط مئات الضحايا في تدافع احتفالي بحضور جماهيري محدود قد لا يتعدى عشرات الآلاف.
ما حدث في منى في موسم الحج هذا، وحسب التوقعات العلمية للحوادث (وهذا علم بذاته يدرس في الكليات المدنية والعسكرية) لم يكن استثنائياً يقع خارج الاحتمالات للفوضى الجماهيرية عندما تكون بتلك المواصفات المذكورة سابقاً. مما يحسب للسلطات الأمنية التنظيمية السعودية المشرفة على شئون الحج حشد إمكانياتها بأقصى الحدود للوقاية والمراقبة والاستباق، بهدف التعامل مع ما هو أكثر وأقرب احتمالاً وأشد فداحة من فوضى تدافع الجماهير. الحسابات العلمية لإدارة الجماهير الكثيفة تتطلب الاستعداد للتعامل مع حرائق قد تشب على نطاق واسع، صدفة أو بطرق تخريبية مقصودة، ومع أي عمليات إرهابية مدبرة، وحتى مع الكوارث الطبيعية. على العاقل أن يتخيل فقط حجم الكارثة لو استطاع تسلل عدواني، خارجي أو داخلي التفجير في عدة أماكن بين ملايين الحجاج، وهذا ما تحاول السلطات السعودية جاهدة الاستعداد لمنعه.
الخلاصة، لقد حدث ما حدث ونسأل الله اللطف في الحاضر والمستقبل، لكنه لم يكن خارج التوقعات، ودفع الله عنا ما قد يكون أعظم. مسارعة الإعلام السياسي لبعض الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وللأسف أيضاً من أجندات سياسية داخلية كان مجرد تعبير عن فرحة الشامت الكاره، الذي يتمنى من قبل ومن بعد أن تحدث لنا الكوارث ويفشل الحج في كل موسم ومناسبة.
على أن الإقرار بالواقع يتطلب الإخلاص في قناعتين، الأولى أن ما حصل كان جزءاً من المتوقع، وكان مؤلماً ولكن في نطاق المحتمل، والقناعة الثانية أن ما حصل لا يعفي السلطات المسؤولة من التحوط المستقبلي العلمي الدقيق لظاهرة الفوضى وتدافع الجماهير، فهذه المأساة تتكرر أكثر من غيرها ويجب التحسب لها قدر الإمكان بالتخطيط والتنظيم الدقيق.
أما فيما يخص الاتهامات المبكرة بالتقصير الأمني والتنظيمي بالإضافة إلى أيّ احتمالات أخرى، فذلك سوف يتم التعرف عليه بعد اكتمال التحقيق. يجب على كل المنتمين المخلصين لهذا الوطن إدراك أنهم لو صرفوا آخر فلس في خزائنهم وجيوبهم، فلن ترضى عنهم الأجندات السياسية، المعادية لهم كوطن ودولة وكيان مستقل.