د. جاسر الحربش
قد يفهم البعض أن الترف توأم الغنى، وأن الغنى الزائد توأم البذخ. أعتقد أن هذا الفهم قاصر عن الإحاطة بالمعنى الحقيقي للترف والبذخ. الترف توأم للتسيب مع شروط الصحة والمناعة الذاتية عندما تتوفر فرصة العيش بالمجان وبدون توجيه، أي بانتفاء المجهود الشخصي والتوجيه الإشرافي. شبابنا من الجنسين في الطبقات المعيشية الوسطى قد يعيش حياة ترف حسب التعريف أعلاه بسبب التربية الخاطئة، بينما قد يعيش الشاب حياة ملتزمة بشروط الصحة والعافية في منزل ثروة فائضة نتيجة للتربية الصحيحة.
التلازم بين القدرة على البذخ، الذي هو أقصى درجات التسيب المعيشي، وبين الثراء الفاحش شرط قدرة فقط، لكنه ليس تلازماً مؤكداً في كل حالة ثراء فاحش. محدود القدرات لا يستطيع البذخ حتى لو أراد، وفاحش الثراء يستطيع البذخ متى أراد. المحدد هو انعدام القدرة رغم الرغبة أو سيطرة العقل رغم توفر الإمكانية.
في نهاية هذه المحاولة التعريفية أزعم أن البذخ هو التوأم الحقيقي للفساد، لأنه يؤدي بأسرع الطرق إلى فقدان كل شيء بما يشمل الفرد والمجتمع بكل المكونات، والعاقل يستطيع استنتاج ما يمكن فقده.
أدخل في الموضوع، استحالة الجمع بين الترف والصحة. في العشرين سنة الأخيرة كثرت الأمراض المناعية الهضمية من نوعي التهاب القولون التقرّحي المزمن ومرض آخر يشبهه كثيراً يُسمى طبياً مرض كرون نسبة إلى الطبيب الذي وصفه أول مرة. الموضوع لا علاقة له بمرض نقص المناعة المكتسب، الإيدز. عند استعراض عدد كاف من المصابين بأحد هذين المرضين سوف نجد أن أغلبيتهم من الشباب ما بين الخامسة عشرة والثلاثين، وأن أكثرهم من أبناء وبنات الطبقات المعيشية العليا والمتوسطة، وأن هؤلاء الشباب تحديداً مطلق لهم السراح عائلياً للتسيب المعيشي فيما يخص النظام الغذائي وأوقات النوم والسهر. العلاقة هنا واضحة بين التسيب مع شروط الصحة والعافية وبين هذين النوعين من الأمراض المناعية التي تضرب الجهاز الهضمي بعنف يصعب التعافي منه بالوسائل الطبية الحديثة والقديمة.
من المفترض أن تكون العلاقة السلبية واضحة بين المناعة الصحية والترف المعيشي، وهذا قد يتضح بالمثال التالي: لو قدم لمائة شخص من نفس الفئات العمرية طعاماً يحمل ميكروباً من مسببات الأمراض الهضمية، لن نحصل كما يتوقع على عدد إصابات مرضية تشمل كل المائة شخص الذين تناولوا نفس الكمية من نفس الطعام. ما سوف نحصل عليه، بعد تصنيف الحالات المرضية والحالات الناجية إلى مجموعات، هو أن الأغلبية بين المصابين كانت من أولئك الذين يعيشون حياة مترفة تتوفر فيها وسائل النظافة المبالغ في تطبيقها بما قد يصل إلى حدود الحياة المعقمة، أما أولئك الأفراد في المجموعة الذين تناولوا الوجبة الملوثة ولم يصابوا بسوء فهم من الذين ينتمون معيشياً إلى بيئات أقل إسرافاً في مفاهيم النظافة المبالغ في تطبيقها.
الإشكال الحقيقي في العلاقة بين الترف والصحة يظهر عندما يجتمع تطبيق النظافة المسرفة في المنزل مع التسيب المعيشي الفوضوي في مجالي التغذية والسهر. هنا بالضبط تكون الفئات العمرية الشابة ضحايا، أولاً لسوء التغذية (لا يأكلون إلا من خارج المنزل ويسهرون حتى الصباح)، بالإضافة إلى المخاطر الميكروبية والكيميائية المتوفرة عادة في وجبات المطاعم وخدمات الأكل السريع. عندما يجتمع الترف المعيشي المتسيب مع النوعيات الرديئة للوجبات من خارج المنزل ينهار الجهاز الهضمي وتنشأ فيه الأمراض المزمنة ومنها ما ذكرناه سابقاً، والتي قد تلازم المصاب طيلة حياته وتقصف عمره. صحيح أن الأعمار بيد الله، ولكن الربط بين التهلكة والهلاك واضح بمثل وضوحه بين الجريمة والعقاب.
هل من نصيحة؟ الصرامة مع الأبناء والبنات فيما يخص الغذاء المنزلي والحصول على قسط كامل من نوم الليل، وقيام السلطات المسؤولة عن صحة البيئة بإغلاق دكاكين وسراديب الأغذية الموبوءة بالميكروبات والسموم. عندما تخل هذه السلطات بواجبها الوطني لأسباب مجهولة يتوجب على المواطن حماية نفسه وأولاده بمجهوده الذاتي.