عماد المديفر
إن دراسات الرأي العام من أصعب دراسات العلوم الإنسانية، ما لم تكن أصعبها على الإطلاق، فهي دراسة لظاهرة معقدة ديناميكية، أي أنها ليست ثابتة على نتيجة واحدة تجاه قضية ما، ويعتبر علماء الرأي العام في أمريكا على سبيل المثال، وهي من أكثر الدول تقدما وخبرة في
دراسات الرأي العام، يعتبرون أن «معظم استطلاعات الرأي العام - الأمريكية المبنية على أسس علمية، ومحكمة - أنها تعتبر مُضللة، لأنها تفشل في التفرقة بين آراء الناس التي يقدمونها دون تفكير أو بسرعة دون إتاحة الفرصة لهم للتمعن في إجاباتهم، وبين أحكامهم المبنية على التفكير والتمعن»، ويمتاز الرأي العام - خاصة في المجتمعات التي تماثل مجتمعنا السعودي المتنوع - بالغنى وعمق التفكير والمشاعر، وصعوبة الاكتشاف أو التحليل.
والحقيقة أننا في المملكة نعاني شُحاً شديدا في الدراسات العلمية المعيارية الجادة التي تقيس الرأي العام حول مختلف القضايا، خاصة تلك التي تعد ذات علاقة بقضايا فكرية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية، فضلا عن دراسات «تحسين الرأي العام» وهذه قضية أخرى ذات أهمية قصوى، وصعوبة أكبر.
يردد الكثير عبارات كـ»نشر الوعي» أو «حملات التوعية»، أو «محاربة الفكر الضال»، وكلها تندرج تحت مفهوم «تحسين الرأي العام»، لكن ما نراه على أرض الواقع أقرب ما يكون للاجتهادات غير المبنية على دراسات علمية تطبيقية معتبرة، فتفضي إلى نتائج أقل بكثير من الطموح، وبذلك فإني أعتبر مثل هذه العبارات والحملات ليست سوى «خدعة» نخدع أنفسنا بها، لنظن واهمين أننا نعمل على نشر الوعي، وفي معرض مكافحة الفكر الضال، لكن الوقائع والنتائج على الأرض ليست كما أردنا مع الأسف، وهذا طبيعي، نتيجة الارتجال، في وقت يعمل فيه العدو، وبعمليات مدروسة مخططة، على نشر الأفكار الضالة والمنحرفة، من خلال حرب دعائية وفكرية ممتدة منذ عشرات السنين، مستخدما التعليم، والمساجد، ووسائل الإعلام، التقليدية والجديدة، ولتتغلغل مثل هذه الأفكار في العقل الباطن لدى نسبة غير قليلة من أبناء المجتمعات المستهدفة، فتصبح عملية «نشر الوعي» و»محاربة الفكر الضال» أصعب بكثير مما نتخيل، ولا سيما أن كل تأخير في ذلك، أو عمل مرتجل غير مبني على أسس علمية، سيصعب أكثر من المهمة، لنجد أنفسنا في مواجهة لكارثة حقيقية.
أنا هنا لا أضخم من هول المشكلة، لكني في الوقت ذاته أرفض أن أقول بأن «الأمور بخير وطيبة، والرأي العام واع» لكل ما يحاك ضده، وأنا لم أقم، أو أطلع، على دراسات علمية واقعية لقياس الرأي العام، تحدد مدى هذا «الوعي» المتحدث عنه! لاسيما إن وضعنا نصب أعيننا أن الرأي العام أساسا متغير، غير ثابت. ودائما أردد ما توصلت إليه قناعات العديد من باحثي الرأي العام والدعاية، بأن «من السذاجة اعتبار أن الرأي العام المحلي، أو الأجنبي، يمتلك دائما وجهة نظر مبنية على معلومات مؤكدة، أو رأي متماسك بشأن المسائل ذات الصلة بالقضايا السياسية الوطنية والأجنبية، وأن الصلات المباشرة والفعالة بين الرأي العام والسياسات الحكومية ليست موجودة دائما» وهو ما اعتبروه ثغرة خطيرة، قد تتسلل عبرها دعاية العدو، ما لم تواجه بحزم، وهو ما أشرت إليه في دراسة لي من أن «التطور السريع في البنية التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات والتي حولت طبيعة نقل المعلومات من أسلوب «الواحد إلى العديد» One to Many إلى النموذج التفاعلي «العديد إلى العديد» Many to Many، أفرز لنا على الساحة، العديد من الفاعلين المستخدمين لهذه البنية الجديدة، مما زاد من خطورة تنامي «دوامة الصمت» في توجيه الرأي العام نحو اتجاهات قد تكون غير مبنية على حقائق، أي أنها مبنية على شائعات، وكذب، وتحريض، وتخريص؛ ما يعني أن على الحكومات أن تكون أكثر تفاعلا، وتلتفت للتواصل الشعبي، وخاصة عبر الإنترنت»، لا سيما إذا ما علمنا أن «الرأي» ليس سوى «وجهة نظر يبديها الشخص في أمر من الأمور»، فهو حكم فردي يختلف من شخص إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، لا يتردد الفرد في التخلي عنه إذا تغيرت الظروف، أو تحصل على معلومات جديدة. «وهذا الرأي يصبح عاما عندما يعلن عنه بطريقة من الطرق ويشترك فيه جمهور من الناس، يزيد عددهم أو ينقص، يعبرون به عن آرائهم الجماعية».
وهنا أجدني أعود لمصطلحات مهمة: «القوة الناعمة»، «الحروب الدعائية»، و»حرب المعلومات»!