اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
فكرت كثيراً هذه المرة في ذكرى احتفائنا بيومنا الوطني الخامس والثمانين المجيد، الذي صادف هذا العام عيد المسلمين الكبير، وتوافد حجاج بيت الله الحرام من كل حدب وصوب إلى بلادنا، لأداء الركن الخامس من الإسلام، في أمن وأمان واطمئنان، يذكرنا بفضل الله سبحانه وتعالى علينا، أن جعل بيته العتيق ومثوى رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، عندنا، وهيأ لنا قيادة صالحة واعية مدركة، تضطلع برسالتها العظيمة في خدمة الحجيج وتعمير المشاعر المقدسة والعناية بها، بعد أن بسطت الأمن، فسار الناس من صنعاء إلى الشام، ومن البحر إلى الخليج، لا يخشون إلا الله والذئب على أغنامهم، فأصبح لزاماً علينا ألا تكف ألسنتنا عن شكر المنعم الوهاب على هذه النعم العظيمة، فبالشكر تدوم النعم.
أقول.. فكرت كثيراً في مدخل مناسب لمقالي هذا، فلم أجد أفضل من مقولة الوالد المؤسس الباني، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، الرجل الصالح، البطل الفذ، القائد الهمام، الفارس الجسور، الذي أدهش التاريخ، وحيّرت أعماله الباهرة وإنجازاته الخالدة التي حققها لوطنه وشعبه والعرب والمسلمين والناس أجمعين، المؤرخين والباحثين والكتّاب والمؤلفين، فعجزوا عن سبر غورها وتدوينها وتوثيقها، فضلاً عن تحليلها وتتبع آثارها واستخلاص الدروس والعبر والحكم التي حفلت بها.
تلك الأعمال الجليلة الخالدة، التي تعجز حتى ألف كتاب عن رصدها، كما يؤكد دائماً سيدي الوالد، قائد مسيرتنا اليوم، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، أشبه أبناء المؤسس العظيم به، الذي يذكرنا في كل أعماله، أننا ما نزال نعيش في دولة عبد العزيز، كأنه يمشي بيننا اليوم، بسمته وخلقه وعدله وصلاحه وحرصه علينا، وحبّه لنا، وحسمه وعزمه وعلو همته، ورجاحة عقله، ومضاء عزيمته وكل أمره.. فلله درّه.
أجل.. لم أجد مدخلاً مناسباً لمقالي اليوم، من مقولة المؤسس، الملك عبد العزيز آل سعود، طيّب الله ثراه، التي ما زالت تتردد في سمع الزمان، بل سوف تظل حاضرة في أذهان أبناء هذا الوطن العزيز الغالي وبناته، وسائر العرب والمسلمين، إلى الأبد، إن شاء الله: (إننا، آل سعود، لسنا ملوكاً، ولكننا أصحاب رسالة).
تلك الرسالة الخالدة، التي هي مبدأ هذه الدولة السعودية الفتية المباركة وغايتها المنشودة، منذ بزوغ فجرها الأول، على يد الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، عام 1157هـ (1744م) من الدرعية الفتية، عرين آل سعود، التي ما تزال حيطانها ورمالها ونخيلها ونسيمها، معبّقةً بقصص بطولات الرجال الأبطال، وحكايات المجاهدين الصادقين، الذين تخلّوا عن كل شيء في دنياهم الفانية، ولم يتعلقوا بشيء من حطامها أبداً، من أجل إعلاء كلمة الله، ونشر التوحيد، ومحاربة البدع والخرافات، وتنقية الدين مما لحق به من شوائب، وخدمة الحرمين الشريفين، وتوفير الراحة والأمن والأمان والاطمئنان لضيوف الرحمن، الذين يقصدون البيت العتيق من كل فج عميق. وبالطبع فضلاً عن تحقيق العدل والمساواة بين الرعية، وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسخير كل الإمكانات لتوفير حياة كريمة لأبناء هذا الشعب السعودي الوفي النبيل.
حقاً.. لم أجد أفضل من تلك المقولة الخالدة، التي سكنت وجداننا ورسخت في أذهاننا قولاً يصدقه العمل الجاد المخلص، الذي يبتغي به قادتنا الكرام الأماجد، منذ تأسيس دولتنا وحتى اليوم، بل إلى الأبد، إن شاء الله، وجه الواحد الديّان، سبحانه وتعالى.. وهذا هو سر توفيق قيادتنا ونجاحها، لاسيما في هذا العهد الميمون، عهد سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، وأدام تأييده وتوفيقه، نبع الإنسانية، بحر الخير الزاخر، بل صاحب نظرية إستراتيجية العمل الخيري في بلادنا.. رجل العلم والفكر والدولة، المسكون حتى النخاع بحب هذا الوطن وأهله الأوفياء، مما دفعه للإلمام بكل شيء فيه، من قبائله وديارها وهجرها ومراتع أنعامها ورموزها ووسم إبلها وماشيتها، وحتى ذرات رمال مواضعها.. سلمان الوالد العطوف، القائد الفذ، المعتز دوماً بدينه وقيمه السمحة، وعروبته ومعتقداته ورسالة بلاده وكرامة وطنه، البطل النادر، الفارس الشجاع المغوار، الذي لا يشق له غبار.. سلمان الحكيم، نصير الفقراء وأبو اليتامى والمساكين، المثقف، الأديب الأريب، بل جامعة الثقافة، الإعلامي الحصيف والصحفي اللامع، ذاكرة الوطن المتقدة دوماً، ومستودع تاريخه وإرثه الحضاري، بل (قوقل) الجزيرة العربية كلها، وأبرز القادة العالميين الكبار اللامعين، الذين يمارسون اليوم الكتابة والتأليف والمشاركة في المحاضرات.. حكيم آل سعود اليوم، وأمين سر العائلة المالكة الكريمة، الذي كان أقرب المقربين لملوكهامن إخوته الكرام الذين سبقوه في تحمل مسؤولية رسالة دولتنا العظيمة.. سلمان الوفاء والحزم والعزم ورجل التحولات الكبرى، الإداري الفريد، الذي بدأ بإعادة هيكلة الدولة في الساعة الأولى التي تولى فيها الحكم. فدمج أثنا عشر جهازاً إدارياً في جهازين فقط، ودمج وزارتين في وزارة واحد، بل دمج حتى ديوان ولي عهده مع الديوان الملكي، ترشيداً للإنفاق ومنعاً لازدواجية القرارات، وتوفيراً للوقت والجهد.
ولأنه مشغول بهموم أمته، فقد حمل الرؤية الإدارية الفريدة المتقدمة نفسها لإخوته القادة العرب أثناء اجتماعهم الأخير في القاهرة بشأن مشكلة اليمن، فاقترح دمج القمتين التنموية والعادية في قمة واحدة، إضافة لإعادة هيكلة جامعة الدول العربية وتطويرها، حتى تستطيع مواكبة المستجدات والمتغيرات، والتغلب على كل المعوقات التي تعترض مسيرة العمل العربي المشترك.. سلمان وارث عبد العزيز مروءة وشهامة ومهابة وجلالاً، الذي تؤكد لنا كل خطوة من خطواته الكريمة، وكل كلمة من كلماته، وكل قرار من قراراته الحازمة الذكية الشجاعة، أن عبد العزيز ما زال يمشي بيننا. سلمان.. القائد الواعي، الذي يدرك جيداً رسالة بلاده، ويعرف مسؤوليته تجاهها، إذ لا يفتأ يردد: (صحيح.. لبلادنا خاصية، وإن كنّا مثل كل البشر في الكون في سلبياتنا وإيجابياتنا وعواطفنا وشخصياتنا وأشكالنا.. لكن خاصيتنا تأتي بوجود بيت الله ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا) ويؤكد في كل مناسبة: (من نعم الله على هذه البلاد، أن شرّفها بخدمة الحجاج، وهذا واجب وشرف نعتز به، وسنظل ماضين في أداء هذه الرسالة... إن هذه الدولة في خدمة الحرمين الشريفين، ويشرف ملكها أنه خادم الحرمين الشريفين... نعتز بخدمة الحرمين الشريفين، وهي أيضاً مسؤولية نتشرف بها، لأن بلادنا هي مهبط الوحي ومثوى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي موطن الخير لجميع المسلمين... تهمنا مكة المكرمة والمدينة المنورة قبل أي مكان في الدنيا).
والحقيقة.. إدراك سلمان لرسالة بلاده وواجبه نحوها، لا يحتاج إلى دليل، إذ لا يقتصر الأمر على أقوال، بل أفعال أوضح من الشمس في رابعة النهار، شهد بها القاصي والداني، ولا ينكرها إلا جاحد أو مكابر، مثلما شهد العالم بحزمه الذي عزّز التوازن الإقليمي والعالمي. وشجاعته ووضوحه وصراحته التي لا تعرف المداهنة والمجاملة والنفاق، اسمعوه يخاطب أوباما، رئيس أكبر دولة في العالم: (لسنا في حاجة لأحد). وعدله الذي لا يفرق بين ملك وأمير ووزير وخفير، إذ يقرر: (هنا.. أي مواطن يستطيع مقاضاة الملك). ويؤكد: (الشرع لأكبر رجل وأصغر مواطن، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين أمير وآخر، فالقضاء مطهرة وهو للجميع). وهو قول يصدقه العمل، والشواهد عليه لا تحصى، ولهذا أكتفي هنا فقط بما شهد به الشيخ الفاضل، عبد الله بن سليمان المنيع، عضو هيئة كبار العلماء، الذي هو قطعاً موضع ثقتنا جميعاً، إذ أكد أن قاضي المحكمة الكبرى في الرياض، ردّ معاملة لأمارة منطقة الرياض، وكان سلمان يومئذٍ أميرها، فلم يعترض، كما أكد أيضاً أن المحكمة ذاتها، حكمت لمواطن من عامة الناس، في نزاع ضد الملك فهد عندما كان وليّاً للعهد، وحكمت ضده كذلك عندما كان ملكاً، كما أكد في شهادته أن القضاء السعودي حكم لمواطن ضد الملك عبد الله، فقبل الجميع حكم القضاء بكل صدر رحب، بل شكروا القضاة وهنّؤوهم على نزاهتهم والتزامهم بالشرع، دونما أدنى اعتبار لمكانة المتخاصمين (أنظر مشكوراً جريدة الجزبرة، الخميس، 28 من شوال 1436 هـ، الموافق 13 من أغسطس 2015 م، العدد 15659، ص 39. وجريدة الرياض، الصادرة في اليوم نفسه، العدد 17216، ص 26). وهو المبدأ نفسه الذي رسّخه المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، وهو من هو في هيبته، إذ كان يقف جنباً إلى جنب مع خصومه أمام القاضي.
و يوصي سلمان وزراءه ومعاونيه: (كونوا قريبين من المواطنين حتى تكونوا قريبين مني). ويوصي مدير مدارس الرياض التي يدرس بها أبناؤه: (أي طالب يدخل المدرسة، انزع عنه كل الألقاب والأسماء حتى يخرج منها، وأول من تطبق عليهم ذلك هم أبنائي، ونحن معكم في أي قرار تربوي تتخذونه). ويؤكد قائدنا سلمان أيضاً، سلّمه الله: (نصون الحقوق والعدالة وحرية التعبير، ونتصدّى لأسباب التفرقة).. عدل لم أعرف له في حياتي مثيلاً غير عدل المؤسس الباني، والد الجميع، الملك عبد العزيز، الذي شمل حتى الحيوان، كما أكد لأمين الريحاني: (العدل عندنا يبدأ بالإبل، فمن لا ينصف بعيره لا ينصف الناس يا حضرة الأستاذ). فأدهش عدله الريحاني، فكتب: (ما وجدت خارج نجد بلاداً تتمثل فيها هذه الحكمة: العدل أساس الملك، ذاك التمثيل الصحيح الشامل.. عدل ابن سعود! كلمة تسمعها في البحر وفي البر وفي طريقك إلى نجد قبل أن تصل إليها. كلمة يرددها الركبان في كل مكان يحكمه سلطان نجد، من الأحساء إلى تهامة، ومن الربع الخالي إلى الجوف. وما عدل ابن سعود غير الشّرع، غير عدل النبي).
والحقيقة.. الحديث عن هذا الرجل الكبير، الذّكي اللّماح،القائد الهمام، أمل العرب والمسلمين المشرق اليوم، والدنا سلمان، سلّمه الله، في حياة حرة كريمة، يكاد لا ينتهي، وكلما تأملت حياته الحافلة بالعمل والإنجاز، شعرت بالعجز عن التعبير عما يجيش بالنفس تجاهه، فلم أجد له اليوم وصفاً غير (القائد الشامل.. خلاصة الملوك والحكام، وعصارة التجربة الإنسانية في الحكم والإدارة).
ولهذا أجد نفسي في حالة والدنا خادم الحرمين الشريفين الذي مازال المواطن الأول ،ولم تغيره المسؤولية، منذ كان أميراً فوزيراً فولياً للعهد واليوم قائداً للبلاد وخادماً للحرمين الشريفين.. هو هو، سلمان الذي عرفناه منذ عهدناه.. يشرّف أفراحنا، ويواسي جراحنا، ويعود مرضانا، ويشيّع موتانا، ويخفف آلامنا وأحزاننا ويشرفنا في بيوتنا.. وأكتفي هنا بإشارة سريعة لموقفه الأبوي الكريم من مصابي حادثتي رافعة الحرم وتدافع منى الأليمتين في حج هذا العام، وزيارته للمصابين في المستشفيات، حتى الإيرانيين منهم، الذين تشير كل أصابع الاتهام إليهم الآن، بأنهم كانوا سبب ما حدث من كارثة مفجعة في منى، فمثل سلمان لا يعرف الشماتة والحقد والانتقام.
(أقول.. أرفض حديث كل الذين أكدوا من قبل أن (التاريخ لا يعيد نفسه). أجل.. اليوم التاريخ يعيد نفسه، فعشنا في عهد سلمان كلما قرأناه في كتب التاريخ وما سمعناه من آبائنا وأجدادنا عن والد الجميع، المؤسس الباني، الرجل الصالح، الملك عبد العزيز آل سعود، طيّب الله ثراه، ولهذا أيضاً، صدق من قال عن سلمان:
مثيل أبيه أشباهاً وفعلاً
عصي الوصف سلمان الشهامة
ولكي تقتنع، أيها القارئ الكريم، بوجهة نظري هذه عن إمكانية إعادة التاريخ لنفسه، أو على الأقل تستعد لإعادة التفكير فيها، أورد لك هنا صورة عكسية تماماً لما سبق: فمثلما اضطر حافظ الأسد، رئيس سوريا السابق، لكي يحافظ على رقبته هو والعلويين، فجاء بالاتحاد السوفيتي إلى سوريا من خلال اتفاقية دفاع مشترك، كما أكد الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات بالحرف الواحد.. كذلك فعل ابنه بشار اليوم.. فصب الروس حممهم وجام غضبهم على كل شيء في سوريا إلا (الدواعش) الذين زعموا أنهم جاؤوا لمحاربتهم وتخليص العالم من الإرهاب، بشهادة إعلام إيران وأتباعها من المسيرة والمنار، اللتين لم يكن لهما من اسميهما أدنى نصيب.
دولة الرسالة الخالدة
قلت إن قادتنا ليسوا سعاة سلطة، بل أصحاب رسالة سامية خالدة، هدفها إعلاء كلمة الله وتحكيم شرعه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحقيق العدل والمساواة وحراسة العقيدة والدفاع عنها والتمسك بها وعدم المساس بأي شيء منها، وبسط الأمن، والمحافظة على الأرواح والأموال والأعراض، وصيانة الحرمات من عبث العابثين واستهتار الطائشين. والسعي الدؤوب من أجل خير الإنسانية وترسيخ القيم الفاضلة والمثل الخيرة من أجل تحقيق معنى الخلافة في الأرض بتعميرها وشكر نعم الله بالمحافظة عليها. إذ يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، مؤرخ الأمة وذاكرة الوطن: (لقد أدرك الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، رحمه الله، عظمة هذه النعمة الإلهية - يعني نعمة الإسلام - وعمل على تمثيلها في نفسه، فجعل الإسلام نبراساً له في كل أعماله، وحقق أهدافه السامية المتمثلة في التمسك بالعقيدة وتطبيق الشريعة الإسلامية والدفاع عنها، ونشر الأمن، وتأسيس مجتمع موحد، يسوده الرخاء والاستقرار).
أجل.. أجهد عبد العزيز نفسه، ووهب حياته كلها من أجل تأسيس هذا الكيان وتوحيده، حتى إذا حقّق الله مراده، انهمك في العمل بكل ما أوتي من قوة وسعة حيلة، وكان همّه الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، فحصّنهما وأمّن طرق الوصول إليهما، وقرّر عام 1368هـ (1948م) توسعة الحرمين الشريفين وإعادة إعمار بعض أجزائهما بدءًا بالمسجد النبوي الشريف، ووفر كل سبل الراحة للحجيج، وكان يقود مواكب الحج كل عام، فيخطب في الحجاج مذكراً بفضل الله علينا أن هدانا للإسلام، ومنادياً بنبذ الخلافات، ووحدة المسلمين والعمل من أجل رفعة الإسلام وعلو شأنه، وتحكيم شرع الله، ونفع الناس، تحقيقاً لمبدأ الرسالة السامية الخالدة التي من أجلها أسس دولته... فشهد الجميع بفضله وأطنب الأدباء والكتاب والشعراء والمثقفين في مدحه، شاكرين الله الذي هيأ لهم قائداً صالحاً ومسلماً صادقاً، أمّن لهم أداء مناسكهم في سلام واطمئنان، إذ أنشد الشاعر أحمد محمد الكناني المصري، الذي كان أحد أعضاء وفود حج عام 1349هـ (1930م) مخاطباً الملك عبد العزيز:
فأنت أنت الذي لو لاك ما آمن
الحجاج، بل أنت في ذي الراحة السبب
بيوتنا في غنى عما يحصنها
مادمت فينا، فما الأبواب والحجب؟
وأنشد الشاعر محمد العباسي البغدادي السلفي، أحد رؤساء وفود حج عام 1351هـ (1932م) في المعنى نفسه:
أمن الطرق في الحجاز وكانت
قبله يشتكي بئيس أذاها
كانت أرض الحجاز تشكو غلاها
فمحى الله ضيقها وغلاها
عمم العدل في الجزيرة قسراً
ومن المهيع الوخيم وقاها
وكما أكدت سابقاً، لم يكتف عبد العزيز بما حقق، وإن كان عظيماً، لأنه صاحب رسالة، فأعد أبناءه الكرام لقيادة دفة المسيرة القاصدة من بعده.. ويقول بولس سلامة، شاعر ملحمة عيد الرياض في هذا المعنى:
من يربى للمكرمات نخيلاً
لن يرى بينه حقير الزؤان
أنت فتحت سمعهم منذ كانوا
بعد في نضرة الغصون اللدان
لحديث الأبطال من كل عصر
فاستطابوا موارد الشجعان
قبسوا منك في العرين دروساً
ونموا في منابت المرّان
عايشوها ملاحماً تشرح الصدر
لسيف وصعدة وحصان
فتحولت بلادنا يداً ندية للخير، وكان كل خلف يضيف مزيداً من اللبنات على ما حققه السلف من بناء وتأسيس وإصلاح في كل المرافق والبنية التحتية، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من مكانة مرموقة بين الأمم، وأصبحت بلادنا رقماً مهماً بين دول العالم، لما حباها الله به من خيرات وموقع إستراتيجي وقيادة راشدة تعي دورها في الحياة، وتبذل كل جهدها لاستمرار مسيرة الخير القاصدة التي دشّنها المؤسس الرجل الصالح، عبد العزيز آل سعود.
وصحيح.. يصعب على أي مهتم تتبع إنجازات هذه الدولة السعودية الحديثة المباركة منذ تأسيسها قبل أكثر من قرن حتى اليوم، ولهذا اكتفي بإشارة سريعة لما تحقق للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، التي هي أهم شيء لدى القيادة السعودية من أي مكان في الدنيا، كما يؤكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان دوماً. فقد تضاعفت مساحة الحرم المكي اثني عشر ضعفاً، كما تضاعفت الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة عشرين ضعفاً (من مائة ألف حاج إلى أكثر من مليوني حاج) فضلاً عن التوسعة السعودية الثالثة التي دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في شهر رمضان الماضي. وكل عام تكثف الدولة السعودية جهودها، وتطور قدراتها لخدمة ضيوف الرحمن، كما رأينا في حج العام هذا الكم الهائل من الإمكانيات المادية والبشرية، التي سخرتها الدولة لخدمة الحجاج، التي شملت 200000 كادر بشري، بينهم 150000 كادر أمني، من مختلف القطاعات، بما فيها وزارة الدفاع، خاصة إدارة التعليم التي تبذل سنوياً جهداً مقدراً في مشاركة الجهات الأمنية لتنظيم الحج وتسهيل حركة الحجيج والحيلولة دون تسيس الحج لخدمة أجندات خارجية، من خلال التعليم والتدريب والتأهيل.
إضافة إلى 23 ألف موظف خدمي و8 آلاف إرشادي، و43 ألف خيمة و25 مستشفىً، بسعة 5000 سرير، و155 مركزاً صحياً، و555 سيارة إسعاف، و3800 آلية، و18 طائرة مروحية، و300 ألف عامل لرفع النفايات قبل الحج وأثناءه وبعده.
وحقاً، لا أظن أن في العالم دولة غير السعودية قادرة على حشد كل هذه الإمكانيات لاستضافة أكثر من مليوني حاج سنوياً، وتوفير كل احتياجاتهم من الأمن والمأكل والمشرب والرعاية الصحية الضرورية، هذا كله بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بجهد هذه القيادة الراشدة وتلاحم الشعب معها.. وقد رأينا كلنا مليكنا المفدى يقود كل تلك الجهود المباركة ويسهر على راحة الحجاج. وقد تجلى ذلك في إدارة القيادة الذكية المسؤولة لما صاحب الحج من أحداث مفجعة، من سقوط رافعة الحرم المكي، وأبواب قطار المشاعر، وحادثة تدافع منى التي تشير كل أصابع الإتهام، حسبما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، لإيران في تدبيرها، لتنال من سمعة بلادنا وتشكك في قدراتها، تنفيذاً لأجندتها الفارسية، وإشباع رغبتها الدفينة في سيادة المنطقة والسيطرة عليها. فضلاً عن التوجيه الملكي الكريم باستضافة آلاف الحجاج والمعتمرين من أكثر من سبعين دولة في العالم سنوياً، خاصة من الإخوة الفلسطينيين وذوي شهداء حادثتي رافعة الحرم وتدافع منى.
أما العمل الإنساني وتقديم الخير للناس في كل مكان، فلا أحد يزايد على دور السعودية فيه، إذ تعد بلادنا اليوم أفضل دولة في العالم تقدم العمل الإنساني للآخرين، بشهادة الأمم المتحدة، فقد تجاوز دعمها مئات المليارات لدعم العمل الإنساني والإغاثي على مستوى العالم، لكل الأجناس من مختلف الديانات والانتماءات السياسية، فقد وصل خيرها حتى إيران والنيبال وغيرهما من الدول التي تختلف معها عقدياً وسياسياً. بجانب احتضانها مئات آلاف العراقيين والسوريين واليمنيين، وفتح أبواب مدارسها لأطفالهم، ومستشفياتها لمرضاهم وجرحاهم، وسوقها لعمالتهم، إذ ترى فيهم إخوة اضطرتهم ظروف صعبة لترك ديارهم، ولم تعاملهم لاجئين وأجساماً غريبة كما فعل الغرب الذي حاصر مراكبهم المهترئة في عرض البحر حتى غرقت بمن فيها دون أن تحرك صرخات الأطفال والنساء ساكناً في ضميرهم، فصاروا طعاماً للحيتان والأسماك، بشهادة الطفل السوري إيلان، الذي حرّكت جثته التي قذفتها الأمواج في شاطئ البحر، ضمير كل أحرار العالم، إن مازال فيه من أحرار.
وبجانب هذا كله، فتحت بلادنا سوقها لأكثر من عشرة ملايين وافد للعمل في سوقها، يحولون لبلدانهم تقريباً سنوياً 12% من النتائج المحلي للقطاع الخاص، لرفد اقتصاد تلك البلدان، ومساعدة أسرهم، فحلت في المرتبة الثانية في تحويلات الأجانب في العالم، بعد أمريكا.