عبد الرحمن بن محمد السدحان
* شكّلتْني طفلاً أكثرُ من ثقافتين، رغم أن والديَّ طيب الله ثراهما ينتميان إلى مرجعيتين ثقافيتين مختلفتين في أمور عدة، فوالدي من شقراء نجد، ووالدتي من عسير السراة، جمعهما النصيب الحلال خلال فترة وجود والدي في أبها، وكان قد قدم إليها أول مرة من هضبة نجد في مهمة رسمية ظنّ أن إنجازها لن يستغرقَ سوى بضعة أيام، فإذا إقامتُه تمتدُّ شهوراً فسنيناً، وشاء الله أن ييسّر له سبُلَ التجارة في أبها فاستقر، ثم اقترن بسيدتي الوالدة، غير أنّ عشرتَهما لم تدمْ طويلاً، فافترقا وبقي هو في أبها حيناً قبل أن يرَحلَ إلى جازان ليمارسَ نشاطه التجاري هناك، وكان يعتمد جزئياً على (جسْر برّي) من الإبل يربطه بأبها، وينقل البضائع منها وإليها!
***
* هنا، وجدتُ نفسي بعد افتراق الوالديْن أمتطي عباب الشتات، متنَّقلاً بين أبها ومشيّع، مقر إقامة جدَّي (لأمي) رحمهما الله، فجازان ثم الطائف فمكة المكرمة فجدة ثم جازان مرة أخرى فعوداً إلى جدة.. قبل أن يرسلني والدي مع أخي مصطفى إلى زحلة لبنان للدراسة عاماً كاملاً، تلا ذلك الاستقرارُ في جدّة ثم الرياض، وتمّ كل ذلك خلال مدار زمنيّ مدته ثماني سنوات، وبالتالي كان لابد أن تترك كل مدينة أو قرية حللت بها.. (بصمةً معينة) على شخصيتي، وخاصة اللّهجات، إلى حد أننّي حين استقر بي المقام في الرياض في النصف الثاني من السبعينات الهجرية، كانت تتنافس على لساني أكثر من (لهجة محلية)، بدْءاً من عسير فالحجاز، ثم لبنان، لم أكن أعرف من المفردات النجدية سوى القليل، ولذا، كان بعض زملاء الدراسة في الرياض يسألونني في دهشة إن كنت (شامياً) أو عسيرياً أو حجازياً، لأن كلماتي كانت خليطاً من بعض تلك الأماني!
***
* حين انتقلت من جدّة إلى الرياض مع سيدي الوالد رحمه الله في مطلع عام 1376هـ التحقت بالمرحلة المتوسطة، وكنت أنشد النجاح الدراسي بتفوق في تلك المرحلة وسواها فيما بعد، ولم يكن يلهيني عن إدراك ذلك الهدف شاغل آخر.. مما (يفتن) طلاب وطالبات هذه الأيام! وقد لاحظ بعضُ الزملاء داخل الفصل وخارجه ذلك الحرصَ مني، وخاصة في مادتيْ اللغة العربية والإنشاء، فراح بعضهم يعلق مازحاً حول ذلك الحرص والنتائج المترتبة عليه، ومرة سألني أحدهم بنبرة أخوية، فقال (ما معناه): (كيف حال (دافورنا) اليوم)؟! فقلت :( من هو (دافوركم) هذا، هل هذا اسم طالب (أجنبي) لم نَره بعد؟ فقال الزميل وهو يغتصب ابتسامة عاجلة :(بل أعنيك أنت..)!
***
* كدتُ أغضبُ من وصفه، لولا أن تدخَّل زميلٌ آخر قائلاً :(هذا مدحٌ يشبه الـمْزح، وليس بذم!) قلت: كيف؟ قال: (أنتَ تعلم أنّ أهم صفات (الدافور) المعروف أنه حين يُشْعَل يُنضِجُ الطعام! قلت :(وما علاقتي بدافوركم، اشْتعَل أم خَبَا ؟!) قال :(لأنك (تشبهه) في بعض وظائفه، فأنتَ كثيرُ النشاط سريعُ الحركة، (مشتعل) العقل، كما نشهدك في الفصل! فقلت مقاطعاً :(أذكر الله.. ولا تصفني بما لا أملك) قال معتذراً لنفسه وصاحبه الذي بدأَ الحوار: (هذا (مصطلح) شعبي نستخدمُه هنا في نجد في مواقف كثيرة، وليس قاصراً عليك وحدك)! قلت: (إذا لم يكن من بديل لهذا الوصف في قاموسك الشعبي.. فلا اعتراض لي عليه!) وانتهى اللقاءُ بالأحضان!