ياسر حجازي
(أ)
لعلّك فكّرت مرّات عديدة أنّ الكونَ والعالمَ المادي من حولك خاضعٌ لنظامٍ موجودٍ بقوّة الضرورة - التي قدّرها الخالق -، أظهر العلماء بعض قوانين هذا النظام وما زالت أخرى مجهولة؛ وهذه الضرورة هي أصل العلّة في حيرة العلماء - وربّما حيرتك -،
وهي ناجمة في ظنّي عن فوضى ماديّة تحرّك المادة باتّجاه إنتاج نظامٍ، وهذا المجهول -الغيب الفوضوي المولّد لمعلومٍ نظاميّ، هو منتظم تبعاً لمراقبة محدودة زمنياً ومكانيّاً (مجال)، وهو معلوم نظاميّ مسؤولٌ بدوره عن إنتاج فوضى ماديّة أخرى غير نظاميّة قادرة على إنتاج نظام ماديّ آخر، وهي عشوائيّة تبعاً لمراقبة محدودة زمنيّاً ومكانيّاً (مجال أوسع)، وكلّ ما كان غير قابل للتفسير، أي خارج النظام يُلحق بالفوضى، لأنّ الفوضى هي مجاورة النظام المعلوم / المرصود، فليس صعباً الاستدلال أنّ تخريب أيّ نظام أو حلّه أو توسعة مجال مراقبته تعقبها فوضى، ودواليك في عودة مراقبة النظام في توسعة مجال المراقبة الخاضعة للفوضى..
فهل من الصواب اعتبار هذه البديهة جزءاً من قانون يُلغي عن الفوضى معناها ودلالتها بحيث تلحق بالنظام، لطالما هي على التعاقب قبل وبعد النظام، فهذا بحدّ ذاته يمثّل خميرة قانون تعاقبي والتعاقبيّة طبيعة في النظام، أو أنّه من الصواب إلغاء دلالة النظام نفسه بحيث إنه ناتج بالضرورة عن فوضى، إذّاك لا نكون إلا أمام فوضى ماديّة، فكلّ ما نظنّه نظاماً فيها هو قدرتنا الجزئيّة والمؤقّتة على ربط سلسلة من الأحداث والوقائع والنتائج والأسباب، فإذا ما توسّعت هذه السلسلة ظهرت الفوضى بما يجرح قوّة ربط السلسلة، ولكن أيضاً، إذا توسّعنا أكثر عاد النظام، وهكذا دواليك في كلّ توسعة يتناوب الفوضى والنظام.. وهو ما يضع كلا القانونين في بارادوكس: بحيث إنّ النظام لا يعني النظام لأنّه يتضمّن فوضى، كما أنّه بطبيعة الحال ليس فوضى، وكذا حال الفوضى لا تعني فوضى لأنّها تحمل نظاماً كما أنّها بطبيعة الحال ليست نظاماً، وهو ما يفضي إلى إزاحة الثنائيّة والضدّية عن النظام والفوضى وإحالتها من التنافسيّة الضدّية الإقصائيّة إلى حالة دائرة هي طبيعة الدورة مع اعتلال في القياس الزمني والمكاني لهذه الدورة، بحيث إنّها دورة تتضمّن في مدارها جدليّة الفوضى والنظام والزمن والحركة ومدار المراقبة نفسه / المجال، فهو جدلٌ خماسيٌّ دائريٌّ يُفضي في دورته إلى جدليّات عدّة هي أبعد ما تكون عن الضدّ، لما في الضدّية من إقصائيّة لا نراها في ضبط النظام والفوضى الذي وقّعنا عليه.
فهذا التعاقب، التبادل، التوافق، التزامن، جميعها تنصبّ في دائرة ومجالات أوسع كلّما اتسعت الدوائر، وكلّما ضاقت تقلّص استيعاب هذه التنافرات والأضداد الوهميّة.. بل إنّ الأضداد نفسها في دوائر أوسع تتلاشى، ولذلك أزعم أن الأضداد مجرّد وسيلة مجازية إيضاحيّة ساعدت الإنسان في فترة زمنيّة بعد نشوء اللغة من أجل فهم قيمة الأشياء عبر منطق بدائي: (بضدّها تُعرف الأشياءُ)، ولكنّها اليوم في زعمي ليس لها انعكاسات سليمة على الواقع، وهي تورّط أصحابها في تعاملات حادّة مع الواقع الإنساني وطبيعته المتعدّدة.. ولذلك أزعم أنّ الأضداد مجازيّة، نسبية، مؤقّتة، خاضعة لحلقات ضيّقة جدّاً، فبمجرد خروجك عن هذه الحلقات والاشتراطات والعلل في نشأتها امّحت الضدّية.
وهذا الذي يجعلني أخرج من مفهوم جدل الثنائيّات، للأسباب التالية:
أ - بسبب وجود (البارادوكس) الحالة الثالثة، والتي لا تنتمي لكلا الثنائيتين.
ب - محو الضدّية في دوائر أوسع.
ت - وجود النقيض الداخلي للشيء / القيمة (الطرف الافتراضي) ممّا يجعل الشيء - بحدّ ذاته - طرفاً جدليّاً مع نفسه، قبل أن يكون طرفاً جدليّاً مع طرفٍ آخر مماثل أو طرفاً للحالة الثالثة.
هكذا يكون أيّ جدل ثنائيّ في أقلّ واقعيّة له، هو جدلٌ خماسيٌّ، لأنّه يتجادل تأثّراً وتأثيراً بـ: (الشيء، والضدّ الداخلي للشيء، الشيء النقيض المجازي، والضدّ الداخلي للشيء النقيض الداخلي، والبارادوكس الذي لا ينتمي لهذه الأطراف)، وقد نزيد في ذلك إذا ظهر (الجامع لهذه الأطراف الخاضعة للجدل أو بعضها - الاستيعاب التوافقي والشبه توافقي)، وهو في القانون الجدلي: الحالة الناتجة عن توافق التجاذب بين المتنافرين الافتراضيّين.
ولهذا السبب تكون قراءة الواقع غير مؤثّرة على الواقع، حينما نعتمد على جدليّات ثنائيّة تحمل تبرير الإقصاء والإطاحة والتطرّف والإلغاء، فكلّما كانت قرارات التعامل مع الواقع مبنيّة على الجدل الخماسي (براجماتيّة السيناريوهات المتعدّدة، المبتعدة عن فكرة حتميّة الإقصاء بناء على وجود محتملين فقط) أمكن السيطرة على جنوح التطرّف في تقليص دوائر النظام والفوضى إلى دائرة ضيّقة جدّاً يتحصّن بها بمفرده ويُقصي عن الحياة كلّ ما فوقها.. فالإقصاء ليس سوى تحايل افتراضي بسبب أوهام الوجود الثنائي والضرورة التفاضليّة بينهما في منطق أحدهما يفضي إلى إلغاء الآخر، والمسألة في ثقافات الشعوب: أنّ التاريخ لم ينتصر لهذه الثنائيّة الإقصائيّة، فالمعاينة والمشاهدة الإنسانية تؤكّد انتصار التعدّدية عبر تنوّع الشعوب والدول على استبداد الإقصاء وأوهام الثنائيّة.
(ب)
إنّ إخضاع جدل الثنائيّات الماديّة على الصراع والنزاع الفلسطيني - الإسرائيليّ أو الصراع الإيراني - الخليجيّ، يضيّق من احتمالات الحلّ، ويكاد لا يُرى في مسارات هذين الصراعين والنزاعين ما يُفضي إلى حلّ يمكن أن يُطبّق في الواقع، وذلك لأنّ الجدل الثنائي المادي تحرّض إدارة الصراع والنزاع على العلّة الثنائيّة: (أنا أو الآخر) والمشكلة في هذه العلّة أنّها ليست حقوقيّة معاصرة يمكن أن تحلّ في محكمة يعترف بها الطرفان، بل هي علّة تاريخيّة تستند إلى تصوّرات فوق واقعيّة، تعتمد في المفاضلة على علل تاريخيّة ثقافيّة ممّا يفضي إلى الإتيان بالتاريخ حكماً على الواقع، وهو أعجز ما يمكن أن يستعان فيه في الصراعات والنزاعات الواقعيّة.. فكلّما ابتعدّت عن الثنائيّة في إدارة الصراعين ابتعدت عن الإقصاء ممّا يفتح أبواباً عديدة لإمكانيّة الحلّ على أسس واقعيّة لا يكون الإقصاء فيها ضرورة ثقافيّة يتذرّع بها كلا الطرفين.
خذ مثلاً: (كيف نقرأ الأطماع الإيرانيّة في الخليج، أو ما تتصوّره طهران بوجود مخاطر خليجيّة على الجمهورية الإسلاميّة؟) هل نقرأها من جدل ثنائي مذهبي (سنّي - شيعي؟) وما هي مخاطر هكذا قراءة على صناعة القرار؟ لطالما لهذا التصوّر البدائي في الواقع ما يؤجّجه في عقليّات تحرّكها الضديّة الإقصائية في معظم تصوّراتها.... فالمكوّن الإيراني والخليجي متعدّد ويضمّ سنّة وشيعة وطوائف أخرى، والاستسلام لخطاب الأكثريّة الاجتماعية المذهبية في البلدين وتحويله أساس الجدل هو استسلام لخطاب شعبويّ يرضي أكثرية جماهيرية غير واعية بمخاطر هكذا واقع وخطاب على المنطقة برمّتها.
بينما قراءة الواقع عبر توسعة دوائره وحلقاته خروجاً من الدائرة الثنائيّة الإقصائيّة وصولاً لتعزيز الجدل الخماسي أو المتعدّد الارتباطات: (بين المصالح، الأطماع، النفوذ، المكوّنات، المجاورة......) سوف تقود إلى صناعة أكثر استيعابيّة وأكثر متانة.
وهذا الفارق بين البراجماتي الذي هو أقرب لواقعيّة أوسع أو ذات دوائر أكثر وأوسع، لأنّه لا يضع نفسه في قراراته تحت مقصلة الأضداد وجحيم الثنائيّات والطرفيّة، وكان رهانه الواعي يقوده لقراءة واقع فوق الثنائيّة المقيّدة، لأنّ طبيعة الثنائيّة أنّها تحمل الإقصاء والتطرّف، وبحيث إنّ العنف ضرورة في أيّة معادلة تعتمد الإقصاء.
(ج)
الدولة تمثّل النظام في مواجهة فوضويّات عدة، أهمها: (1) الفوضى القائمة من العموم / لأنّ كلّ حالة تجمّع إنساني إن لم يحتكم إلى نظام وقع في الفوضى، وهذا تعليلنا أنّ مضمون الدولة يرجع تاريخيّاً إلى مراحل أولى من وعي الإنسان.. (2) الفوضى الناجمة عن طبيعة حركة الواقع المتعدّد والمتنوّع بعد صناعة قراراتها النظامية، وهذا تعليلنا إلى ضرورة وجود النظام دائماً، إذّ لو أنّ وجود النظام الأوّلي أمكن من السيطرة على ثبات الواقع بحالة نظاميّة تمنع وجود الفوضى لوصل الإنسان إلى المشاع النهائي، ورفع عن نفسه حالة الحاجة إلى نظام، وهو ما يستحيل معاينة في التاريخ والواقع، ذلك أنّ حركة الواقع نفسها تنتج فوضى يحتاج إلى نظام يحسن إدارته لمصلحة الإنسان.. (3)الفوضى الناجمة عن طبيعة الإنسان الفرد / ومجموع الأفراد وتفاعلاتهم مع السلطة.
والشعب يمثّل الفوضى في مواجهة أنظمة عدّة: (1) النظام القائم من الدولة، (2) النظام الناجم عن الواقع تحت تأثير الفوضى والضرورة، و(3) النظام الناجم عن الإنسان / الناس.
ولذلك، فإنّ عدم الوعي بحركة الفوضى وتأثيرها الجدلي على النظام يتورّط بنظرية المؤامرة أو إحالة الأسباب إلى المخييل والاستعانة بالمخزون الثقافي الغيبي لتبرير ما يعجز عن قراءته. الفوضى والنظام مترابطان في زعمي، ويمثّلان دورة الحياة، ونحن هنا لا نقع في تناقض حينما نتحدّث عن جدل فوق ثنائي في الواقع، ثمّ نأتي على مفهوم الفوضى والنظام، ولا أقول مفهومي، بحيث إنّني لا أقدّم لثنائيّة تلغي أحدها الآخر في جدل ثنائيّ وضدّي، بل أقدّمهما على أنّهما متعاقبان وموجودان في جدل فوق ثنائي مع الإنسان، والواقع، والضرورة والزمن، وإذا ما فصلتهما عن تعاقبهما وكلاهما يحتاج إلى الآخر لتقويضه وللحدّ من تطرّفه، فليس في الدائرة من تطرّفٍ، وهما دائرة واحدة، أمّا إذا فصلتهما تعثّرت دورة الدائرة، فإذا بالفوضى منفردة تنتج دماراً لا حدود له لأنّها تتحوّل حينذاك إلى ضدّ وطرف يحمل إقصاءً، وكلّ إقصاءٍ يحمل أدوات العنف، وإذا بالنظام منفرداً ينتج استبداداً كاملاً، وكلّ استبدادٍ كاملٍ لا عُقبى له سوى فوضى كاملة، والاستبداد يحمل في نظامه إقصاءً لا يتحقّق إلاّ عبر أدوات العنف النفسي والجسدي، فالدوائر تنتج علاقات على قاعدة تبادل المصالح في واقعيّة التعايش عبر مصير المدار، أمّا تحويل الدائرة إلى خط مستقيم فإنّه يفضي إلى انهيارٍ وتفتيت مجموعة من النقاط، يمكن رصده في العراق وليبيا، فكلّ نقطة في الخط يمكن أن تمثّل نفسها وتكون طرفاً، وهذه الكارثة التي أحدثها الاحتلال الأمريكي للعراق حينما حوّله من دائرة استبداديّة تمثّل النظام إلى خط مستقيم يمثّل الفوضى، بحيث إنّ كلّ مكوّن عراقي يمثّل نفسه في كيان مستقل كنقطة منفصلة في الخط الفوضويّ، وليس مرتبطة بنقاطٍ أخرى، فليس يسيراً تبرئة ما حدث من توصيف التطرّف وعين التطرّف حينما تريد أن تبني منظومة ديمقراطيّة بالعودة إلى الردّة الطائفيّة والقبائليّة والمناطقيّة والعرقيّة وهم أساس العلّة في الدولة الاستبداديّة فكيف يمكن لعلّة لا تنتج إلاّ استبداداً أن تنتج منظومة ديمقراطيّة تفرض حال المواطنة العادلة، وهو ما يمكن إيضاحه في مقام آخر لتبيان علاقة الثنائيّة بالاستبداد وتأثيرها على الإقصاء والتطرّف والعنف.