سهام القحطاني
تتجلى فكرة «ختم الولاية» عند ابن العربي أو خاتم الأولياء، فهو يرى أن الختم ختمان؛ ختم يختم الله به الولاية المطلقة ويتحقق من خلال نزول عيسى عليه السلام، وختم يختم الله به الولاية المحمدية ويتحقق ذلك من خلال ظهور المهدي.
وعادة ما يقارن فلاسفة الصوفية بين ولاية النبوءة وولاية الولي.
فيرى الترمذي أن ولاية النبوءة تتم من خلال الوحي والعصمة، في حين أن ولاية الولي تتم من خلال» الحفظ والسكينة»؛ فليس للولي عصمة إنما «حفظ»؛ وهي كرامة من الله لأوليائه، وتشترط العصمة مع الحفظ أن كليهما مانعة من ارتكاب الذنوب، ولو الولي كاد أن يسقط في شبهة أو ريبة، تلقته سكينة فتحميه من الوقوع في الشبهة والريّبة.
وبذلك نجد أن معظم أفكار نظرية الولاية والإمامة في الفكر الصوفي سواء الفلسفي أو الديني غالبا ما تندمج مع مبدأ «الشخص المؤله» الذي هو مظهر من مظاهر التجلي الإلهي، وذلك فتأليه العارف يتم من خلال آليتي الحلولية والاتحاد مع المطلق، كما أن تلك الأفكار غالبا ما تدعم أحقية العارف المندمج بالذات الإلهية في الحكم باعتباره خليفة الله في الأرض وفق الممنوح له من الذات الإلهية، مما يجعل الديني أساس السياسة، وبذلك تكشف هذه النظرية الطموح السياسي لمالك الولاية الذي من خلالها يملك مصير الجماهير كما تكشف مقام استحقاقية الولاية السياسية للمعصوم، باعتبار من أن المعصوم أقدر على الحكم العادل وهو ما يعني لا إفساد مع معصوم، وتلك المعصومية بدورها تحيط صاحبها بقدسية تلزم ديمومة حكم المعصوم لغير المعصومين.
وذلك الإلزام يستوجب الطاعة العمياء إضافة إلى تمجيد المعصوم.
وقد أنتجت هذه النظرية فيما بعد ولاية الفقيه تُبنى نظرية ولاية الفقيه على أن السياسة أصلها الدين وهو مبدأ حتى عند السنة، مع وجود اختلاف في طريقة التفكير في شكل الدين المطعم بالسياسة.
وتقوم ثنائية الدين والسياسة الحاكمية على وجوب صياغة سلطة تشريعية تستمد أصولها من قوانين الفقه أو تعتمد على القوانين الفقهية، أو بناء دستور سياسي تُشرع أصوله في ضوء القوانين الفقهية، إن فقهنة السلطة السياسية لا تتم شرعيتها قوانينها إلا من خلال الفقهاء الذين صنعوا تلك القوانين، وبالتالي هذا يستوجب مشاركتهم في السلطة الحاكمية.
وهنا علينا أن نقف أمام وظيفة الفقيه.
يقوم الفقيه بوظيفتين أولهما»قوننة أفكار النصوص الشريعية» والوظيفة الثانية هي «إرشاد الناس إلى كيفية تطبيق القوانين الفقهية».
يعود التطور السياسي لولاية الفقيه إلى العهد الصفوي في إيران، فقد كانت التهديدات العثمانية كدولة سنيّة بالنسبة للدولة الصفويّة تُفزع شرعيتها لكونها دولة تقوم على المذهب الشيعيّ غير المقونن وهو ما يُهشش قاعدتها الجماهيرية «القيمة الانتمائية» للحاكم.
إذن كانت الدولة الصفوية تحتاج إلى «منهّجة المذهب الشيعي» أو وضع منهج تكاملي مستندا على أصول وقوانين فقهية، ليتسنّى لهذا المذهب من وجود رسمي ثابت، تناضل من أجله.
لكن فكرة نشأت ولاية الفقيه تعود إلى القرن الثالث الهجري عند ظهر المذهب الاثني عشري، ولم تكن فكرة موجودة من قبل؛ أي فكرة النائبية أو «المعصوم» الذي يُعادل الإمام الغائب.
كانت العقبة التي واجهت الدولة الصفوية «غياب نظرية تأصيل هذا المذهب» فكل ما سبق هذا العصر من كتابات تتعلّق بالمذهب الشيعي كانت تمتزج ضمن علم الكلام لكن كمذهب ديني مستقل حامل لإيديولوجية فكرية وإجرائية لم يكن له وجود.
وكانت الدولة الصفوية وخاصة بعد موت إسماعيل الأول الرجل القوي الذي كان يمثل في ذاته أيديولوجية، في حاجة إلى أيديولوجية يلتفت حولها الشيعة، لذا قرر»طهماسب» ابن إسماعيل الأول في إيجاد صياغة أيديولوجية للمذهب الشيعي ثابتة تحمي حكمه وحكم من سيأتي بعده وتلك الحماية يجب أن تنطلق من قاعدة دينية مستدامة.
ولكي يتم هذا الأمر استعان الحاكم «طهماسب» بالعلامة «علي الكركي العاملي» لمنهجّة المذهب الشيعي وتشكيل إيديولوجيته.
وبذلك بدأ العلامة الكركي العاملي القادم من بيروت في تأسيس أصول هذا المذهب.
وكانت أول فكرة أسس من خلالها أصول المذهب هي الفكرة الشائعة في الذهن الجمعي الشعبي الاثني عشري «الإمام الغائب» كيف يحكم في حالة غياب، وهنا جاءت مسألة «النائب بالمعادل» وبذلك سنّ مرتبة النائب العام عن الإمام الغائب، ونقل سلطة ومسئولية الإمام الغائب إلى النائب عنه حتى عودته من غيابه.
وقد أٌقرّ التأصيل الكركي لأيديولوجية المذهب الشيعي رسميا باعتبار أن النائب «وارث علوم سيد المرسلين ونائب الأمة المعصومين، ومن لا يتابعه فإنه لا محالة ملعون مردود» ومن هذا المقولة نستنتج أن النائب عن الإمام الغائب هو وارث النبوءة وتلك الوراثة بمقتضاها تلزم العصمة.
بل وتوسع في ذلك فجعل السلطة الحاكمة هي من صلاحيات النائب عن الإمام الغائب يمنحها لمن يرى أنه قادر على حكم الناس، وبذلك فالنائب عن الإمام هو المسئول عن السلطة التشريعية والتحكم في قيادة السلطة التنفيذية.
ومن هذا المنطلق ظهرت طبقة «فقهاء الإمامية» وظيفتها تشريع سلطة الحاكم.
و تعرف ولاية الفقيه بحسب التعريف الشيعي لها» قيام الفقيه الجامع لشروط الفتوى والقضاء مقام الحاكم الشرعي، وولي الأمر، والإمام المنتظر في زمن غيبته، من إجراء السياسات، وسائر ما له من أمور، عدا الأمر بالجهاد الابتدائي، وهو فتح بلاد الكفر بالسلاح، مع خلاف في سعة الولاية وضيقها»
لاشك أن الإمام الخميني قائد الثورة الشيعية في إيران استطاع أن يُنضّج الجانب النظري لولاية الفقيه وأن يطبقها على أرض الواقع.
اتسمت ولاية الفقيه عند الخميني بتنظير فلسفي عميق نظرا لتأثره بأفكار فلاسفة التصوف الشيعيين أو من تأثر من أولئك الفلاسفة بالفكر الشيعي.
وأبرز ما في نظرية الخميني أنه استطاع أن «يُنظّر لواقعية الولي الفقيه»، ويُخرجه من مرتبة التوجيه إلى مرتبة الحكم والسلطة، وقد تجلى هذا التمثيل الواقعي من خلال أمرين؛ أولهما: تأسيس الدستور الحاكم في إيران وفق أصول ولاية الفقيه، والأمر الآخر من خلاله هو عندما أصبح «أول نائب للإمام يحكم إيران ويرجع إليه في كل أمور وشؤون الدولة».
و يرى الخميني أن هناك سببين لضرورة حاكمية ولاية الفقيه أو لضرورة إقامة حكومة شيعية:
السبب الأول: أن الفقيه في زمن الصراعات والحروب هو الأقدر على قيادة الأمة لإخراجها من مآزقها.
و هذا السبب هو الذي يجعل إيران دوما في حالة حرب سواء أكانت حقيقية أم متخيّلة، وهو ما جعل الخميّني يقول أن «تجرعه للسم أهون عليه من انتهاء الحرب بين إيران والعراق».
لأن السلام هو بالضرورة يفقد شرعيّة ولاية الفقيه، ومفهوم الحرب هاهنا هو مرتبط «بالعقيدة الخلاصية» التي تسعى إلى إنقاذ البشرية من الشرّ، وهو ما يُشرّع لها حسب تلك العقيدة التدخل في شؤون الجميع لنشر العدالة والحق.
و السبب الآخر: أن الفقيه في ظل غياب الإمام هو الأقدر على التشريع والتجديد والتأويل، حتى لا تتعطل مصالح الناس أو تنحرف نحو الضلال.
كما يرى الخميني أن هناك أربعة أسباب تُوجب الاستحقاق الحاكمي للفقيه وهي:
1- إن الفقيه محاط بالعلم الكامل أسوة بالإمام.
2- إن الفقيه مرجع إلهي لكل الناس في جميع الأمور.
3- إن المرتبة التي يمثلها الفقيه» كوصي للنبي» تقتضي أن يرأس السلطة الحاكمة للأمة.
4- إن الخروج عن حاكمية الإمام هو وقوع في حدّ الشرك بالله.
وهكذا نجد أن الولاية الفقهية لا يتم استحقاقها إلا بسلطة سياسية مطلقة.