سهام القحطاني
لعل الأوليّة اللازمة و نحن نتحدث عن «سلطة الجماعة» أن نقف أمام الماهيّة المعرفية «لدلالة معنى الجماعة» سواء على مستوى الكيفية التكوينية أو الكيفية التمثيلية،وهما مستويان ضروريان لفهم نشوء سلطتها،مع سابق العلم أن «كل أكثريّة» هي حامل سلطة بطبيعة الحال.
يعتمد «تكوين الجماعة» في أساسه على «الخيّريّة المتجذّرة في أصل الطبيعة الإنسانية»و بذلك تُصبح «قيم و مبادئ الخير» أصل أول، ولا أقصد بالأصل الأول التضمين الرامي إلى دلالة المنتهى بضغط الصلاحية أو المترتب «بحتمية النهاية»، إنما قصدي بأصل الأول الجوهر وليست «طباعة الموجود».
أقول تُصبح «قيم و مبادئ الخير» أصل أول «يلتف حوله الأفراد « باتفاق ضمني مشترك بأن تًصبح تلك القيم و المبادئ مصدر تآلفهم في ظل وجودها،و مصدر تفرقهم في ظل غيابها،وبهذا المسار ينشأ قانون»تكوين الجماعة» وفق منظومة الخير و مرفقاتها.
ولذلك لا نستغرب عندما يُرسخ النص المقدس الكريم تبلور مفهوم خيريّة الأمة على أساس «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»، فتحقيق قيمة التوصيف هنا تنبني على فاعلية تنفيذ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
وبذلك فالأمة الخيّرة لا يمكن تكوينها إلا في ظل فاعلية التنفيذ لقوانين الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
كما أن الخيّرية هنا تتحول إلى معيار تفاضل بين الجماعات و الأمم،يُؤسس في ضوئها «جاذبية الخطاب الديني» كما يُمكن استثمارها في تأسيس «جاذبية» للخطاب الإصلاحي أو التنويري أو النهضوي أو التحديثي.
لكن حظ تلك الخطابات «الإصلاحية و التنويرية و النهضوية و التحديثية» من تحقيق «مركز جاذبية» للمتلقي غالبا غير موفق ولا يحظى بجماهيرية تنافس أو تتوازى مع الخطاب الديني،و يعود السبب في ذلك إلى قيمة المصداقية التي يحظى بها الخطاب الديني من قِبل الجماهير خلافا لبقية أنواع تلك الخطابات،وتلك المصداقية تكاد تكون مطلقة لمركز جاذبية الخطاب الديني تنطلق من «إلهية مصدر ذلك الخطاب» سواء أكانت إلهية حقيقية أو إلهية مُعادِلة ،وتلك الإلهية بمستوييها هي التي تمنح الخطاب الديني ولاية معصومة من الكذب و الباطل و الانحراف.
في حين أن بقية تلك الخطابات هي «تابع لمصدر أرضي «يتصف بالوقتية و الفنائية، وهو ما يجعل ثابته المفترض بصلاحية تزمنية سيئه أقوى من حسنه ؛فاحتمال باطله أقوى من احتمال حقه،و احتمال كذبه أقوى من احتمال صدقه،وهذا ما يفسر لنا النجاح الكبير للأحزاب السياسية المؤسسة في ظل مدى ديني في الانتخابات التي تمت في البلدان العربية رغم وجود الأحزاب الاشتراكية و الديمقراطية المؤسسة في ظل مدى سياسي بحت.
و قوانين فاعلية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قد تضم الديني و اللاديني،لأن معيار الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر غير مُقام بالسند الديني أو محصور به، إنما بسندي» الخير و الشر»،وهما سندان لا يمكن حصرهما في جماعة دون أخرى،ولعدم إمكانية تلك الحصرية تسعى كل جماعة إلى توثيق خصوصيتها الخيرية بقيم ذات طابع نفعي رفيع المستوى مثل الإصلاح، أو الحضارة،أو الديمقراطية،أو السلام.، وبذلك تُصبح تلك الخصوصية الخيرية للجماعة مع التطور التاريخي مصدر سلطتها و «هيمنتها الخيّرة».
يظل مصطلحا المعروف و المنكر سواء داخل الإطار الديني أو خارجه من المصطلحات القريبة من المتلقي؛ لارتباطهما بفكرة المجتمع المثالي،اضافة لارتباطهما بفكرة الخير و الشر،وهي الفكرة التي لايمكن أن تنفصل عند الفرد عن ثنائية الخير و الشر،وتلك الثنائية بدوها لا يمكننا خلع الخلفية الدينية عنها.
فالسند الديني له جاذبيته الخارقة حتى في أقوى و أعرق علمانيات العالم،في كتاب سيرتها الخاصة «الجبار و الحبروت» لمادلين أولبريت ذكرت أن «الحس الديني» عند الأمريكيين يتصاعد و إن ستين بالمئة من الأمريكيين يؤمنون بالإرتقاء الأخير وهو ما يقابل في الموروث الإسلامي «ظهور الدجال» و أن أكثر القصص مبيعا في أمريكا هي القصص التي تتناول الارتقاء الأخير، و في كتابه السيرة الخاصة «جرأة الأمل» لأوباما باراك يعترف بأن الأمريكيين يميلون إلى التدين.
وهكذا يمكن القول إن قيم الخير و المعروف سواء المستنِدة على أصل ديني أو نهضوي هي مركز جذب دائما لتكوين الجماعات، وتزداد شدة الجاذبية كلما انطلقت من مدى ديني.
لكن الأمر لا يستقر للأصول في كيفية ثابتة و إن قاست بالضرورات ، صحيح أن القيّم و المبادئ لا تتغير بالتداول و التطور و المستجد و التسديد و المقاربة على مستوى الجوهر، لكن ثبات الجوهر لا يعني أحادية «طوابع الموجود»، لأن الأنسنة مؤثر متحرك ، و تلك الحركة هي تتحكم في تغير الأفراد لكشوف حساباتهم لأوليات أصول القيم و المبادئ بإضافة أو حذف وفق حاصل التداول و التطور و المستجد و الذي تتحكم فيه أنسنة الواقع ،وهذا الت غير يُعيد تقسيم الجماعة الأولى التي اتفقت على «شامل قيم الخير و المبادئ» و إعادة التقسيم تعتمد غالبا على المؤثرات الخاصة التي طرأت على الفر أو البيئة الاجتماعية أو البيئة المعرفية، و تلك المؤثرات لاشك أنها تسهم في تطوير رؤية الفرد و الجماعة في الكيفية المتجددة لتمثيل قيم و مبادئ الخير و إجراءات تنفيذها و منظومة تقييمها، وهذا المسار هو الذي يُنتج تعدد المفاهيم للجوهر الواحد وفق المراد بالكيفية التمثيلية و الغاية منها، وهو تعدد يُنتج بدوره إضافات تُقسم في ضوئه إنتماءات مختلفة تتكون في ظلها جماعات آخرى.
ولا تتكون الجماعات في ظل أساس قيم و مبادئ الخير سواء في مستوييها الأوليّ أو الثاني فقط،إنما هناك أسس أخرى،فهناك المشترك المادي مثل «واحديّة الأرض»،وهذا المشترك «الجامع للأفراد» يختلف عن الأساس الأول؛لأن المشترك المادي هو «المكوّن لقيم و مبادئ» الجماعة، وليس كالأساس الأول «القيم و المبادئ « التي تُصبح هي المتحكمة في إنتاج المشترك المادي للجماعة.
وعندما أرهص الإنسان للمعارف و الثقافات و الطقوس المختلفة،أضيفت تلك المعارف و الثقافات و الطقوس إلى مصادر تكوّن الجماعات في ظلها.
ثم جاءت الأديان الإبراهيمية،وأضيفت تلك الأديان إلى مصادر تكوّين الجماعات،و ثم قُسمت تلك الأديان إلى فرق و مذاهب و طوائف،أُضيفت بدورها إلى مصادر تكوين الجماعات.
ليُصبح لكل جماعة سلطتها الأيديولوجية التي تسعى إلى فرضها على الآخر وفق ما تعتقده من امتلاك لمذهب ديني هو الأصح وهنا ننتقل من «سلطة الجماعة» إلى «سلطة مذهب الجماعة».