سهام القحطاني
قلت في الموضوع السابق إن عوامل قوى التأثير على الذهنية الجمعية تتمركز على مصدرين هما منتج الخطاب والخطاب، وذكرت أن منتِج الخطاب بدوره ينقسم إلى مستويين المستوى الأولى وأسميته «المُنتِج المباشر» للخطاب وكيف يحقق سلطته التأثيرية على الذهنية الجمعية من خلال مجاورته لأصل الفاعل الحقيقي لولاية التأثير كنائب عنه من خلال سلطة تسكين المتشابهات، والتي أوضحت كيف حصل عليها المُنتِج المباشر للخطاب.
وفي هذا الجزء سأخصص الحديث عن «المستوى الثاني» من تأثير مُنتِج الخطاب، مع العلم أن الترتيب المُساق هنا لا يحمل «فضل» القيمة، إنما هو حاصل علة ظاهريّة؛ وهو ما استلزم في هذا التحليل تقديم «سلطة المتشابه/النائبيّة» على «سلطة الأصل/الولاية».
كما قلت سابقاً إن «المُنتِج المباشر» للخطاب لا يستطيع أن يحقق سلطة التأثير على الذهنية الجمعية وقيادتها إلا من خلال سلطة التشابه مع أصل السند الذي يُهيمن على ذاكرة الذهنية الجمعية بجاهزيتها شديدة التحصين لحمايتها من خارق الإضافة والتغير وهو ما أكسب الذاكرة الجاهزية القدرة على ممارسة الإقصاء والطرد.
لكن كيف يُهيّمن ذلك الأصل على قيادة الذهنية الجمعية؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال أُريد أن أُبيّن مسألة في هذا الصدد وهي أن «سلطة تسكين المتشابهات» هي عملية حيوية مستمرة بنيوية النسق، وهذه النسقيّة البنيوية هي التي تصنع أيديولوجية تلك السلطة.
وتعتمد غالباً تلك العملية على «الطاقة التاريخية» وبالتقادم يُصبح المتشابه هو أصل إسناد في ذاته.
وليس كل متشابه يستطيع أن يكون أصلاً بالذات، لأن الكلّ هنا يمكن تقسيمه إلى ثلاث درجات من حيث أصول الإسناد وهي؛ أصل الإسناد بسلطة التشابه، أصل الأسناد بسلطة التعضيّد، أصل الإسناد بسلطة الذاتية.
و هذا «التوارث بالمتشابه» في مسار درجاته نحو وحدة الكلية بأصل السند هو الذي يُوسِّع سلطة التقليديّ ويحافظ على هيمنتها على عقل الذهنية الجمعية.
وهذا بدوره يحول «عقل الذهنية الجمعية» فيما يأتي إلى مصدر لاستنباط قوانين تلك السلطة، وهو ما قد يوقع في صناعة «النموذج المُزوّر» صحيح أن الذهنية الجمعية صارمة الافتحاص، لكن حدود المضمر عادة ما يغلب مسطرة الدقة.
أما أعلى درجة من درجات سلطة المتشابهات فهي درجة الإسناد بالسلطة الذاتية لأنها حاصل الولاية، وأقل درجة هي درجة الإسناد بسلطة التشابه؛ لأنها حاصل تأثير دون استصحاب.
أما كيفية احتساب تلك التراتبية لدرجات سلطة المتشابهات فيتم من خلال أربع وحدات هي؛ وحدة الاتفاق والمطابقة، وحدة درجة التأثير المُصاحبة لقيمة ولقدرة على تشكيل استصحاب، وحدة الاستدامة التاريخية، وحدة البعد الدرامي للسيرة.
و تلك الوحدات القياسية تستلزم ما يضمن صدقيّة صلاحيتها المطلقة وهو «خلوها من أي حدّ تزميني»؛ لأن الحدّ التزميني حامل مُهدِد لتلك الصلاحية التي يُؤسس في ضوئها القيادة العميقة، ولذا جاءت وحدة الاستدامة التاريخية كمؤكِّد على ضرورة نقاء قيادة التأثير الخالص من أي مرفوع قابل للتزمين؛ لأن شبهة التزمين تنقض قوة الصلاحية المطلقة الممنوحة لقيادة التأثير. و الآن نتوقف مع الإجابة عن سؤال هيمنّة الأصل على قيادة الذهنية الجمعية.
كل مقدّس هو مطلق السلطة، وحتى يكتسب أصل الإسناد سلطة مطلقة لا بد من «قدسنته»، وهناك مصدران للقدسنة هما «العصمة و الولاية». وكل عصمة متضمنة للزومية الولاية دون قيّد، وكل ولاية تتضمن عصمة بوجوب قيد المجاورة.
و يمكن التقريب للتوصيف الوظيفي للولاية بأنها» الاصطفاء المقصود الموجِب للحفظ من الوقوع في المعاصي سواء بأصولها أو صورها أو شبهاتها». ولذا ربط العلماء «العصمة» بالنبوءة و»الحفظ» بالولاية.
وكل أصل سند «زُكّي بالولاية الموجِبة للعصمة» من قِبل جمهور العلماء باتفاق الاستدامة التاريخية، اكتسب سلطة مطلقة لقيادة الذهنية الجمعية وفق التزكية بولاية معصومة.
ويمكن تقسيم العصمة إلى مرتبتين: مرتبة العصمة بالأصل، و مرتبة العصمة بالأثر.
و مرتبة العصمة بالأصل وهي محصورة في الأنبياء، أما مرتبة العصمة بالأثر فهي على ثلاثة مستويات، وتحديد المستوى يعتمد على المدى الزمني للعلاقة بمرتبة العصمة بالأصل، ولذا فالمستوى الأول من مرتبة العصمة بالأثر مقصور على الصحابة، والمستوى الثاني من تلك المرتبة مقصور على تابعي الصحابة، وهنا علاقة هذا المستوى بمرتبة العصمة بالأصل معقودة وفق وسيط المستوى الأول من مرتبة العصمة بالأثر وهذه الفئة هم التابعون الأوائل للصحابة، أما المستوى الثالث فأصحابه معقودة لهم العصمة رغم خروجهم عن علاقة المدى الزمني لمرتبة العصمة بالأصل لهذا السبب الذي ورد في الحديث النبويّ الذي رواه أبو هريرة: (يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) وقد قدمت الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية فتوى برقم «8678» وضحت فيه الحديث فقالت:
«معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «يجدد لها دينها» أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم دينًا - بعث إليهم علماء أو عالمًا بصيرًا بالإِسلام، وداعيةً رشيدًا يبصِّر الناس بكتاب الله وسنَّة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع ويحذّرهم من محدثات الأمور ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن يتفق عليه جمهور العلماء بأنه استطاع أن يجدد للأمة أمر دينها يُضم للمستوى الثالث من مرتبة العصمة بالأثر، وعلينا أن لا نغفل نقطة هامة أن بعض العلماء يقيم بالاعتبار الولاية مقام العصمة بالأثر، والبعض الآخر يُلزم العصمة بالأثر شرط تحقيق الولاية.
وما نستنتجه من تلك الفتوى أمرين هما «صفة مُجدد دين الأمة»، و»نوع الصراع في تحقيق التجديد». إن البطل الذي سيُعيد للأمة صلاحها سيخرج من «البيت الديني»، وإن الصراع الذي سينتهي إلى انتصار «البطل الديني» الذي سيُجدد للأمة دينها هو صراع بين الحق والباطل. وتبعاً لهذين الاستنتاجين يمكن القول في ظلهما إن من سيملك تجديد دين الأمة وقيادتها نحو الحق إضافة إلى البطولة الولاية والعصمة، وهنا نجد أنفسنا أمام «سلطة ولاية الفقيه» وهو ما سنتابع الحديث عنه.