سهام القحطاني
تتأثر الذهنية الجمعية بأصحاب الأفكار الذين يدعمون «القيمة الإصلاحية».
قد يعتبر البعض أن الاتفاق على أحادية جوهر ممثل لقيمة وصفية هو أمر مناهض لمنطق تطور واقعية الدلالة،كما أن تثبيت أحادية جوهر القيمة الوصفية عادة ما يقود إلى دكتاتورية المتحوّل،كما يجعل تلك القيمة الإصلاحية سلطة استبدادية في ذاتها.
وهذا رأي بلا شك يتوافق مع الحقيقة التاريخية التي أثبتت أن كل قيمة إصلاحية هي حامل لسلطة الاستبداد، أو ما يُمكن تسميته استبداد القيمة أو الاستبداد القيمي.
ورغم وضوح المعرفة بالتوقع المبني على رصد وإحصاء إحداثيات مكررة بذات الأثر، إلا أن الاختلاف على جواز الاستبداد القيمي من عدم جوازه أمر لا يُمكن إقامة اتفاق شامل على حاصله المقسوم على عدد واحد صحيح، أو الادعاء بشمولية تامة الاتفاق على حاصل القسمة على عدد واحد صحيح.
وهذا الاختلاف على توفير اتفاق على حاصل مثبت بالصحة المستدامة، هو ما يسنّ جواز الاستبداد من خلال جملة المقاصد والغايات التي تنطوي عليها المنظومة الذرائعية التي تحيط تلك القيمة بأحادية الجوهر وفق ثلاثة اعتبارات؛ الاعتبار المثلويّ، والاعتبار الفضلويّ، والاعتبار الأعلويّ، وهي اعتبارات مبنية على ثلاث وحدات؛ صفرية الأثر السلبي، موافِقة لسوية الطبيعة، القابلية التاريخية المطردة.
ويُمكن إيجاز الفكرة السابقة؛ بأن القيمة الإصلاحية لا تخلو من حامل استبداد، يُشجع ظهوره مجموع المؤهلات التي تتصف بها تلك القيمة من حصول اتفاق معقول لا يُمكن إنكاره، وتحقيق درجات مفيدة من المثالية والفضيلة، مع إمكانية متتالية لاستثمارها سواء في معالجة السلبي أو رفع مستوى الإيجابية.
مع الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي أن استبداد القيمة الإصلاحية قد يدفع إلى العنف والإرهاب لفرض سلطة القيمة الإصلاحية بذريعة «الحرب المقدسة» وهذه أخطر مراحل سلطة القيمة الإصلاحية.
قلت مطلع هذا الموضوع إن الذهنية الجمعية تتأثر بأصحاب الأفكار الذين يدعمون «القيمة الإصلاحية»، وهذا التأثر يمكن إرجاعه إلى ما يحيط تلك القيمة الإصلاحية من «بُعد دراميّ» يؤثر على وجدانية تلك الذهنية الجمعية.
تسعى «القيمة الإصلاحية» وفق ما تعتقد تلك الذهنية مراعاة النفعية الجمعية متجاوزة النفعية الخاصة لِمُصّدِر القيمة وناشرها، والتجاوز هنا هو «مُشكّل لمفهوم التضحية» تضحية الأنا من أجل الآخر، أو الناشر من أجل المتلقي.
وتجاوز الذاتية بكل مُغرياتها من أجل الآخر هي التي تدعم الصورة المثالية لمُنتِج القيمة الإصلاحية، بل لا نبالغ إن قلنا إنها تتحمّل نصف مسئولية تمام تلك القيمة.
كما أن ذلك التجاوز يرفع من درجة الشفافية الإنسانيّة عند ناشر ومُنتِج القيمة الإصلاحية، وهذا الترفيع يُقرّب صاحب القيمة الإصلاحية إلى المرتبة الاصطفائية التي تُهيأ للدخول إلى «نادي الولاية».
ويمكن تقسيم أنواع دعم القيمة إلى ثلاث فئات، الدعم القائم على تاريخية بطولة القيمة، الدعم القائم على نهضوية القيمة، الدعم القائم على علمية القيمة.
وبما أن الاختلاف مفسدة في ظل سلطة الاستبداد، فالصراع بين تلك الفئات مستمر؛ لسعي كل فئة إلى فرض سلطتها الكلية على الذهنية الجمعية.
ومن يملك تحديد نتيجة التنافس بين فئات القيمة هي «الذهنية الجمعية».
وقد يسأل البعض عن «نوعيّة تقدير» الذهنية الجمعية التي أتحدث عنها منذ الجزء الأول من هذا الموضوع، هل هي سلطة في ذاتها.. أم حاصل سلطة؟.
والحقيقة أن «الذهنية الجمعية» هي «عميل مزدوج» وفق تراتبيّة نشأتها، فهي سلطة في ذاتها في وقت ما وحاصل سلطة في وقت آخر، وهذا حديث قابل للتوسع - إن شاء الله -.
ويتحكم في تراتبية مسار الذهنية الجمعية بينها وبين المعطى المحتوى الخاضع لسلطتها أو الخاضعة هي لسلطته نوع العلاقة بينهما ودرجة توصيفه ومستوى توثيقه.
لا شك أن القيمة المدعومة بتاريخ بطولي هي الأقرب إلى استجابة الذهنية الجمعية؛ لأنها تتضمن «حكاية وصراعاً وبطلاً» مما يجعل القيمة الإصلاحية أقرب واقعاً بالتصديق لتلك الذهنية،إضافة إلى ما توفره من شحن عاطفي يستدعي معه «تطهير الذات وترقيتها».
لقد جرت العادة كما نعتقد بواقعية التصديق أن «القيمة الإصلاحية» غالباً ما تتعرض لصراع من قِبل الرافضين لشيوعها وسلطتها، لأن الجهل والفساد اللذين تحاربهما القيمة الإصلاحية هما أكثر فائدة لسلطة الاستبداد من العلم والإصلاح، وبذلك فنحن أمام «مقارنة المقابِلات الضدّية» العدل مقابل الاستبداد، العلم مقابل الجهل، الإصلاح مقابل الفساد.
والمحافظة على تلك الفائدة هي التي تدفع صاحب الاستبداد لمحاربة القيمة الإصلاحية من خلال مُنتِجها وناشرها وفق اعتبار تؤمن به سلطة الاستبداد وهو أن القضاء على القيمة الإصلاحية لا يتم إلا عبر القضاء على ناشرها.
وبذلك يُصبح «ناشر القيمة الإصلاحية» هو مُعادِل للقيمة الإصلاحية ذاتها، هذا التناسخ المقصود هو الذي يحوّل ناشر القيمة الإصلاحية إلى «صاحب رسالة اصطفائية» تُمهد تلك الاصطفائية له «سلطة الولاية».
ودخول ناشر القيمة الإصلاحية كمعادِل بالتناسخ للقيمة ذاتها في صراع مع السلطة الاستبدادية المقاوِمة لتلك القيمة هي التي تصنع «دراما الابتلاء» أو «مسرّحة الابتلاء» التي يتعرض لها معادِل القيمة الإصلاحية أو ناشرها، وهنا نجد أنفسنا أمام فكرة أخرى داعمة لسلطة «ولاية ناشر القيمة الإصلاحية» مُضافة إلى فكرة الاصطفائية وهي فكرة «البطولة»، التي تُصبح أهم توثيقات سلطة الولاية؛ لأن البطولة هي التي تحوّل صراع ناشر القيمة الإصلاحية مع سلطة الاستبداد المقاوِمة لها إلى «صراع بين الحق والباطل».
وبذلك، فإن هذا التوثيق هو الذي يُحيط ناشر القيمة الإصلاحية بنورانية مقدسة، بل وتُحمّل كحق مكتسب لكل من يُصبح معادِلاً للناشر الأول أو الرائد للقيمة الإصلاحية وفق سلطة تسكين المتشابهات.
«لا فكرة حيّة دون صوت» و»لا فكرة عظيمة دون صوت» و»لا فكرة خالدة دون صوت»؛ ما أقصده أن «الأشخاص» هم من «يصنعون القيم الحية والعظيمة والخالدة» أو يحفظونها أو ينشرونها.
فالقيمة تعيش بالأشخاص وتموت بالأشخاص، ولا قيمة بقدمين.
ولذلك تسعى غالباً السلطة الاستبدادية في صراعها مع القيمة الإصلاحية إلى إضعاف تلك القيمة أو نفيها أو إخفائها من خلال اضطهاد ناشرها ومحاربته وقمعه، وهو ما يُعرض ناشر القيمة إلى ما يُسمى بلغة فقهية «الابتلاء».
و»دراما الابتلاء» أو «مسرّحة الابتلاء» التي يتعرض لها ناشر القيمة الإصلاحية سلطة تأثيريّة في ذاتها تتعاطف معها الطاقة الوجدانية للذهنية الجمعية.
كما أن دراما الابتلاء هي حامل بدورها «كرامة» مؤكدة لولاية صاحب القيمة المبتلى بالاضطهاد والقمع والظلم.
وكرامة الابتلاء هي التي تحوّل حرب القيمة الإصلاحية إلى «حرب مقدسة» بين الحق والباطل والخير والشر.
وبذلك في «مسرحة الابتلاء» غالباً ما تكون، مدعومة بتناص حكوي لأصل الابتلاء وغايته، وما يترتب عليه وفق ذلك التناص؛ بأن ناشر القيمة الإصلاحية يصطف مع الأنبياء والرسل مؤسسي أصول الابتلاء والمنح الإلهية.
كما أن الابتلاء كما تعتقد الذهنية الجمعية هو برهان على حقيقة «اصطفائيّة ناشر القيمة الإصلاحية».
والابتلاء قدرة تنطوي على شجاعة فائقة لمواجهة قوة الاضطهاد؛ لذلك يتضمن البطولة، وكلما عظمت القوة المسببة للابتلاء ارتفعت قدسية ناشر القيمة الإصلاحية في الذهنية الجمعية، لأن ولايته تشتدّ ثبوتيتها.
وبذلك تُصبح «دراما الابتلاء أو مسرحته» إحدى مكونات سلطة الولاية.