لبنى الخميس
من طبيعتي أن أبحث وأقرأ عن كل مدينة أزورها.. أبحر في تاريخها.. وأتمعّن في حاضرها.. أقف عند أدبها وفنها ومطبخها.. وغيرها من الجوانب التي ترسم روح المدينة وتشكّل عمق هويتها.. واليوم أشارككم بعض المعلومات والرؤى المتنوعة عن مدينة باريس.. التي عُرفت طويلاً بـ»مدينة النور» ليس لأنوار شوارعها وأزقتها بل لأنوار الثقافة، وأضواء الفن والروايات العظيمة التي خرجت منها. إِذ كانت باريس ومازلت مصدر إلهام متجدد لكثير من الكتاب الباحثين عن طقوس الإلهام، والمثقفين المأخذوين بسحر شوارعها وأناقة مقاهيها.. فلكل ركن في باريس حكاية ملهمة.. ابتداءً من تلك الحضارة التي نشأت على ضفاف نهر السين.. مرورًا باللوفر أكبر تجمع لإرث البشرية، وشموخ برج إيفيل الذي يسميه بعض الفرنسيين «بالمرأة الحديدية».. وانتهاء بساحة الكونكورد التي أعدم فيها لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطونيت باستخدام المقّصلة، إلى جانب آلاف من رموز مرحلة الفساد، وسيطرة الملكية والكنيسة على البلاد.. فاندلعت الثورة الفرنسية عام 1789 ليتمخّض عنها أحد أعظم الدساتير في تاريخ البشرية.. دستور خطّ فيه الفرنسين رؤاهم عن العدالة، وعززوا فيه مفاهيم الحرية.. العدالة.. والمساواة.
وللمقاهي في باريس قصة لذيذة.. حيث لا تشبه مقاهِي العالم بل تتميز بإطلالة «التيراس» الخارجي المطل على الشارع كمشهد سينمائي متحرك.. لا يهدأ طوال اليوم.. يحتسي فيه المقيمون والسياح كوب «الكابتشينو» ويستمتعون بلوحة حية تجسد كافة تفاصيل الحياة.. في شارع مسمى بأحد أسماء أهم كتاب البلاد كـ «فيكتور هوجو» مؤلف أشهر الروايات في التاريخ الفرنسي «البؤساء» ورواية «أحدب نوتردام» التي كانت تلخص الأوضاع البائسة لكنسية نوتردام، أو الفيلسوف والكاتب المسرحي الساخر فولتير الذي يعد اليوم في فرنسا رمزًا لحرية التعبير ونبذ التطرف.. وغيرهم.. ففي باريس للفن والأدب مكانة عميقة لكونها ذاكرة الشعوب وصندوق قصصه وحكاياه..
ففي أثناء تنزهك في شوارع المدينة ستشعر أنك داخل متحف كبير، تمشي فوق سطور حكاية تاريخية.. تقلب صفحاتها كلما طالعت عراقة المباني حولك، وتعجبت من ثراء قائمة الأماكن السياحية بالمتاحف والمعارض والمكتبات.. فقد قال الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون مرة: «تنزهك في باريس.. سيعطيك درسًا بالتاريخ.. الجمال.. وقيمة الحياة». كما أنها أثارت قريحة كثير من الكتاب ليكتبوا عنها قصصًا وقصائد، مثل الكاتب الأمريكي إرسنت هيمينجواي ونزار قباني الذي كتب إحدى أجمل قصائد العشق في باريس مخاطبًا حبيبته.. «كل التماثيل في باريس تعرفنا.. وباعة الورد، والأكشاك والمطر.. حتى النوافير في الكونكورد تذكرنا.. وما كنت أعرف أن الماء يفتكر».
وقد سافر «رفاعة الطهطهاوي» الشيخ الأزهري إلى باريس ضمن بعثة أرسلها والي مصر محمد علي باشا، فوقع في غرام المدينة، وعاش بها 5 سنوات بعد أن انخرط في الحياة الفكرية وأتقن الفرنسية في فترة وجيزة.. وكتب بعدها كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» فعاد إلى مصر بروح وثّابة ومتحمسة للتغيير، فأسهم في ترجمة عشرات الكتب في العلوم والإِنسانيات، وأصدر جريدة الطلائع بالعربية، وأسس أول مجلة ثقافية في العالم العربي اسماها «روضة المدارس» وأسس مدرسة الألسن للترجمة، كل ذلك بعد رحلة علمية إلى باريس مدينة الفن والنور والحب.
ومن المؤسف، أن يختزل كثير من العرب والخليجيين تحديدًا زيارتهم إلى باريس في شارع «الشانزليزيه» الذي يصفّون فيه سياراتهم الفارهة، وينقلون إليه أسلوب حياتهم الفاخر من الملبس والمقعد والمشرب، حتى ذاع صيت إنفاقهم جلّ أموالهم فيه، فباتت المقاهي تضاعف أسعارها، وتكدّست عربات التنزه بأنورها اللافتة وأصوات الأغاني العربية والأنغام الخليجية المرتفعة على جوانب الشارع، بحثًا عن مرتاديه من الخليج. وسط غياب اللغة العربية مثلاً عن خيارات الترجمة في كثير من المعالم السياحية كقصر فيرساي وعدد لا بأس به من المتاحف.. ما يعكس التجارب المبتورة لكثير من السياح العرب في أسلوب قضائهم لإجازاتهم!..