يَقُولُ الْمَثَل الإِنْجِلِيزِيّ: «التُّفَّاحَة لا تَسْقُطُ بَعِيدًا عَنِ الشَّجَرَةِ»، فِي إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ الْفَرْدَ يَتَأَثَّرُ بِأُسْرَتِهِ أَكْثَر مِنْ أَيِّ عَامِلٍ آخَرَ.. يُولَدُ الطِّفْلُ عَجِينَةً لَيِّنَةً، يُشَكِّلُهَا أَبَوَاهُ كَيْفَمَا شَاءَا.. فَيَبُثَّانِ فِيهِ مَعَانِيَ الْحُبِّ وَالسَّلامِ، أَوْ يَزْرَعَانِ فِي حَقْلِ قَلْبَهُ الْوَسِيعَ حَشَائِش التَّمَرُّد وَصَبَّار الْكَرَاهِيَة.. يَحْصُدَانِ بَعْد هُنَيْهَةٍ الْمَحْصُولَ كَمَا بَذَرَاهُ.
فَإِذَا كَانَ «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ، دَلالَةً عَلَى انْتِقَالِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الأَقْرَانِ كَانْتِقَال الْحَرَارَةِ بَيْنَ جِسْمَيْنِ; فَهَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى غَيْرِ دِينِ وَالِدَيْهِ وَأَهْلِهِ؟!
لَفْتَ نَظَرِي حَدِيثٌ كَانَ لِلْعَالِمِ الْمِصْرِيِّ الْحَاصِلِ عَلَى جَائِزَةِ نُوبِل فِي الْكِيمْيَاءِ أَحْمَد زُوَيْل، حَيْثُ أَوْضَحَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَثَّ فِيهِ شَغَفَهُ بِالْعُلُومِ أُمُّهُ وَأَبُوهُ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُمَا عَلَّقَا لافِتَةً عَلَى غُرْفَتِهِ وَهُوَ بَعْدُ طِفْلٌ فِي الِابْتِدَائِيَّةِ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا (دُكْتُور أَحْمَد زُوَيْل!!) فَكَانَ لَهُمَا مَا أَرَادَا.. حَفَّزَا وَشَجَّعَا فَحَصَدَا، وَالْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ!
أَلَيْسَ غَرِيبًا أَنْ نَجِدَ غَالِبِيَّةَ مَنِ اتَّجَهُوا لِلِانْحِرَافِ الْفِكْرِيِّ; تَشَدُّدًا أَوْ تَسَاهُلًا، تَكْفِيرًا أَوْ إِلْحَادًا، مَنْ أُسَرٍ مُفَكَّكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ، وَمِنْ جَوٍّ مُشَبَّعٍ بِالسُّمُومِ وَأُحَادِيَّة الرَّأْيِ وَدِيكْتَاتُورِيَّةِ الْقَرَارِ..؟! بَلْ إِنَّ مِنْهَا أُسَرًا شَجَّعَتْ وَدَعَمَتْ وَحَفَّزَتْ أَبْنَاءَهَا عَلَى الِانْخِرَاطِ فِي تَيَّارَاتِ الِانْحِرَافِ الْفِكْرِيِّ وَالْهَمَجِيَّةِ، وَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ مُفَاخِرَةً.. فَأَيَّ جُرْمٍ ارْتَكَبُوا؟!
لَقَدْ فَاجَأَنِي أَثْنَاءَ كِتَابَةِ هَذَا الْمَقَالِ اعْتِقَالُ الشُّرْطَةِ الإِنْجِلِيزِيَّةِ (الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْكَفَاءَةِ وَالدِّقَّةِ 5 أَشْخَاصٍ مِنْ عَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِلاشْتِبَاهِ فِي عَلاقَتِهِمْ بِتَنْظِيمٍ إِرْهَابِيٍّ!! نَعَمْ، 5 مِنْ عَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالسَّرَطَان يَضْرِبُ الْأَعْصَابَ الْقَرِيبَةَ مِنْهُ أَوَّلاً، وَلا بُدَّ أَنَّ النَّهْرَ يُغْرِقُ مَنْبَعَهُ قَبْلَ مَصَبِّهِ!!
وَكَمَا أَنَّ وَحْدَةَ بِنَاءِ الْكَائِن الْحَيِّ هِيَ الْخَلِيَّةُ، فَإِنَّ وَحْدَةَ بِنَاءِ الأُمَّةِ الْأُسْرَةُ; إِنْ صَلُحَتْ صَلُحَتِ الأُمَّةُ، بَعْدَ صَلاحِ الْمُجْتَمَعِ وَالدَّوْلَةِ، وَإِنَّ فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَمِيعُ، وَانْهَارَ الْبِنَاءُ، وَضَاعَ الْمَجْدُ، وَضَرَبَ الْوَبَاءُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ مَعًا.. لَكِنَّ الأَمَلَ مَوْجُودٌ، وَالْوَصْفَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَتَلْخِيصهَا آتٍ.
يَقُولُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ إِنَّ 6 قَوَاعِد تَصْنَعُ أُسْرَةً نَاجِحَةً:
1- الالْتِزَام: أَيْ تَدَيُّن دُونَ إِفْرَاطٍ أَوْ تَفْرِيط، وَنَشْر الْوَازِع الدِّينِيّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الانْزِلاقِ فِي الْخَطَأِ، وَالابْتِعَادِ عَنْ الْمَضَارِّ. كَمَا أَنَّ الالْتِزَامَ يَعْنِي الارْتِبَاطَ، فَلا بُدَّ عَلَى الطِّفْلِ الصَّغِيرِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْعَائِلَةِ نَفْسهَا أَنْ يَفْهَمَا أَنَّ الْعَائِلَةَ تَعْنِي رَابِطَةً، وَأَنَّهَا كَكُرَةِ الْمَطَّاطِ، مَهْمَا ابْتَعَدَتْ عَنْ يَد رَامِيها لَا بُدَّ أَنْ تَعُودَ لَهُ.
2- التَّقْدِيرُ وَالْمَحَبَّةُ: امْنَحْ طِفْلَكَ تَقْدِيرًا وَحُبًّا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَحْثِ عَنْهُ خَارِجًا، فَيَجِدُهُ فِي جَمَاعَةٍ يُسَمُّونَهُ أَبَا فُلانٍ أَوْ يُلَقِّبُونَهُ بِسَيْف كَذَا أَوْ أَسَد كَذَا، وَيَأْخُذُونَ مُقَابِلَهُ رُوحَهُ وَجَسَدَهُ، فَيَبِيعَانِهِمَا لِلشَّيْطَانِ! لا تَقُلْ: أَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَأَنَا أُحِبُّهُ. قُلْ لَهُ فِي وَجْهِهِ: أُحِبُّك! عَلِّمْهُ أَنْ يَقُولَهَا، أَشْعِرْهُ أَنَّ هُنَاكَ صَدْرًا لا يَكِلُ مِنْهُ وَلا يَمَلُّ..!
3- التَّوَاصُل الإِيجَابِيُّ: الابْتِعَادُ عَنْ الابْنِ يَعْنِي اقْتِرَابه مِنْ التِّلْفَازِ وَالإِنْتَرْنِت، وَهُمَا عَلَى فَائِدَتِهِمَا الْعَظِيمَةِ لا يُرَبِّيَانِ. عَلِّمْهُ احْتِرَام الآخَرِينَ لأَنَّ التِّلْفَازَ سَيُعَلِّمُهُ الاسْتِهْزَاء بِهِمْ، وَعَرِّفْهُ حَقَّ أَبِيهِ وَأُمِّهِ لِأَنَّ الإِنْتَرْنِت مَمْلُوء بِقِصَص الْعُقُوق وَالإِهَانَة! أَعْطِهِ فُرْصَةً لِيُنَاقِشَ وَيُجَادِلَ. امْنَحْهُ وَقْتًا لِيُعْلِنَ عَنْ مَشَاعِرِهِ، لا تُضَيِّقْ عَلَيْهِ، فَيَصِيرَ مَهْزُوزًا مَأْزُومًا، قُنْبُلَةً مَوْقُوتَةً فِي نَهْرٍ رَاكِدٍ.
4- قَضَاء الْوَقْت مَعًا: لَيْسَ أَهَمَّ مِنْ تَمْضِيَةِ بِضْعِ دَقَائِقَ يَوْمِيًّا فِي تَفَقُّدِ أَحْوَالِ الأُسْرَةِ عِصْمَةً لَهَا مِنَ الزَّلَلِ، وَاكْتِشَاف بِذَرَّةِ الْخَطَرِ قَبْلَ أَنْ تَمُدَّ جِذْرَهَا فِي طِينَتِهِ.
5- التَّوَافُق الرُّوحِيّ: وَمَعْنَاهُ إِيجَاد اهْتِمَامَات مُشْتَرَكَة، لُعْبَةً وَاحِدَة يُحِبُّهَا الْجَمِيعُ، أَوْ فِيلْمًا تَتَحَلَّقُ حَوْلَهُ الْعَائِلَة، أَوْ قِصَّةً تَتَشَارَكُ الأُسْرَة قَصَّهَا، مِمَّا يُعْطِي دِفْئًا وَذِكْرَيَاتٍ تَظَلُّ مَعَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ مَهْمَا ابْتَعَدُوا فِي مَسَارِب الْحَيَاة.
6. مُوَاجَهَة الضُّغُوطِ النَّفْسِيَّةِ مَعًا: فَالْخَطَأُ لا بُدَّ حَادِثٌ، سَيَمُرُّ يَوْمٌ وَيُخْطِئُ أَحَد أَفْرَاد الْعَائِلَةِ، سَيَذِلُّ، سَيَقَعُ، فَإِنْ وَجَدَ يَدًا مَمْدُودَةً لَهُ، مَهْمَا تَطَاوَلَ بِهِ الْعُمْرُ وَأَخْطَأَ مَرَّة أُخْرَى، سَيَعُودُ لَهَا، لا عِتَابَ، لا لَوْمَ، الْكُلّ يُخْطِئُ، وَخَيْر الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ، هِيَ فَضِيلَةٌ ضَائِعَةٌ، وَصِيَانَة حَقِيقِيَّة مِنْ الْبُكَاءِ عَلَى اللَّبَنِ الْمَسْكُوبِ!
وَبَعْدُ; فإِنَّ أُسْرَةً تَعْرِفُ رَبِّهَا، وَتُحِبُّ أَفْرَادهَا، وَتَحْرِصُ عَلَى مُسْتَقْبَلِهِمْ، لهِيَ أُسْرَةٌ نَاجِحَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ النَّوَاةُ الَّتِي تَتَعَاضَدُ فَتُكَوِّنُ نَخْلَةَ الْمَمْلَكَةِ السَّامِقَة..
رَعَاهَا اللَّهُ وَسَقَاهَا، وَأَخْزَى الأَعْدَاء، وَأَصْلَحُ الْفَرْدَ وَالأُسْرَةَ.. اللَّهُمَّ آمِين!
د. فايزة بنت صالح الحمادي - وكيلة جامعة الملك فيصل لشؤون الطالبات